الامام الشيرازي انسكلوبيديا كربلائية

ملامح وتوصيفات:

رجال الابداع وقامات الاضافة وقمم التألق ترتب على الباحث مسؤولية مضاعفة في التعريف بها والاحاطة بمنجزاتها في العلم والمعرفة والعرفان يزينها نقى وتقى وزهد ومقارعة للظلمة مع حكام السوء بالذات مع لين بالعريكة وسمو في الشخصية الى الحد الذي تكون فيه لاؤه نعما الا في التشهد لتقترب من الرمز الرمز رمز الرموز:

هذا الغيض من الفيض صادفني وانا احاول الكتابة عن الامام الفذ السيد الشيرازي قدس سره، اسلام في رجل، وعلم وكمال في قامة بلغت الذرى لتصنع قمة يندر تكرارها، اذ اصدر الامام وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف انسكلوبيديا (دائرة معارف) جاءت في خمسة وعشرين مجلدا، جعلني اصفه قدس سره بانه الامام الانسكلوبيديا، وانسكلوبيديا كربلائية..

ولد الامام الشيرازي في ارض ابي الاحرار علي بن ابي طالب صلوات الله عليه وسلامه وجاء طفلا الى كربلاء المقدسة وكانت ولادته 1367 للهجرة/ 1928 للميلاد ولسماحته رؤية تدل على رجحان عقلي في علم الاجتماع الحضري (حضرية المدن)..

فالنجف وكربلاء من المدن التي نشأت على حافات الصحراء الا انه ميز كربلاء بحضرية الوسط ففي كربلاء تمت لسماحته الابنية التحتية لشخصيته علما وتأدبا وتفقها جمع الى كل هذا وفرا من اللغة والادب والنحو والبلاغة والمحسنات اللفظية والدواوين الشعرية وكتب اللغة والنقد والمقالات والبحوث ذات الصلة..

لقد تتلمذ الامام الشيرازي طاب ثراه وجدد ذكره على سماحة المرحوم طيب الذكر والده ونخبة من المع اساتذة زمانه..

هذه الكنوز المعرفية وماكتب في الاصول والعقيدة واللغة وعلومها وما اليها من مصنفات النحو والبيان انما وجدت في سماحة السيد طاب ثراه التربة الغنية التي اختص رب العباد سبحانه وتعالى سماحته وبذلك اينعت احدى اغنى رياض المعرفة والعرفان، تكاملت في شخص سماحته، فكان النتاج شجرة سامقة غنية في جذورها قوية في ساقها مخضرة في اوراقها دانية في قطوفها منها دائرة المعارف (الانسكلوبيديا) التي وضعها سماحته وهو في ريعان فتوته جعلها في خمسة مجلدات جمعت بين الاصول والعقيدة والفقه، مع عين فاحصة على الاجتماع والاقتصاد والادب والتنشئة الاسرية والتاريخ وسير الرجال، فكانت كنزا جعل للسيد الامام قدس سره مكانة متميزة بين الافذاذ والعلماء والحجج والآيات وانتشر اسمه على مساحة امتدت من الهند فايران فالعراق فبلاد الشام (سوريا الطبيعية) والجزيرة والخليج وصولا الى لبنان..

وبذلك بزغ نجم شيرازي جديد في سماء المعرفة والعرفان في علوم الدين والدنيا، مقاله كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، منسوجة بسيرة المصطفى عليه وعلى اله افضل الصلاة والتسليم، مؤطرة بفكر الائمة الذين جعلهم رب العزة (سبحانه وتعالى) رواسي ليستقر امر المعمورة وسفينة نجاة تخليصا للبشر في اوقات المحنة عندما يدلهم الخطب وتفور تنانير الصراع وتحرق النزاعات والاطماع انسانية الانسان..

ذلكم هو الامام الشيرازي، الحسيني النشأة الذي عم فضله ونشر ظله على العالم الاسلامي قلبا واجنحة واطرافا فازدهت به ارض الطف وتاقت لعلمه ومعرفته اهتماما وانتفاعا فكان العلم القامة والقمة في العطاء والامين بالفتوى فبحث وقرأ واطلع وخطب فكان نهرا من الخير والكرامة ودفقا من الفقاهة جعلت من سماحته (قدس سره) احد اعلى قامات الفقهاء الذين حملوا وبإخلاص وبصيرة وتجرد هموم عصرهم واهتماماته..

شكل هذا الوفر من كنوز المعرفة وفصوص الحقيقة تحديدات نوعية في الفقه والفكر الشيعيين انتفع بها العالم الاسلامي بكافة مذاهبه فقد كان سماحته (قدس سره) ملكا للإسلام بل للبشرية جمعاء مترجما وبخطوات من نور حكمة جده امير المؤمنين وامام العارفين التي تقول (الناس صنفان اما اخ لك في الدين او قرين لك في الخلق)..

الاسرة الشيرازية مدرسة للفتوى السياسية

البحث عن الامام الشيرازي عن طريق تقديم قراءة راهنية عن فكره الفذ الذي ينفرد بقدرته على النفاذ والتنافذ بين الاجيال سابقها ولاحقها، وبما يبقيه حيا بكنوز علمه وفقهه وابداعاته الفكرية التي تجاوزت الحدود التقليدية في الكتابة والخطابة والدعوة، فتحت افاقا جديدة في التبليغ، محققة للمنبر الحسيني بالذات وظائف في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والتأكيد على فاعلية (التعليم) في رقي المجتمعات ومنها مجتمعنا العراقي، حولت المنبر الى مؤسسة تنهيضية تثقيفية ونقلته من الوعظ الى الفكر..

وانسجاما مع مثل هذا التحول في الدعوة والتبليغ ووظيفة المنبر التي اسهم الامام الشيرازي بعلمه وقربه من هموم الناس ومعرفته التفصيلية والدقيقة بالإنسان الكربلائي ومجتمعه، انما يحتم اظهار دور المدرسة الشيرازية وطول باعها في تغيير احداث وتطلعات واحلام العراقيين والعرب واهل الاسلام بل البشر على امتداد الشرق، فان الفتاوى السياسية التي صدرت عن قامات شيرازية انما كانت فواعل ايقظت ونشطت (الحراك) فنقلته من الافقية (المكانية) لتجعله راسيا صاعدا.. مثال ذلك فتوى الامام محمد حسن الشيرازي طيب الله ثراه الذي افتى ضد امتياز التنباك في ايران..

تلك الفتوى الشيرازية التي نزعت الشرعية من حكام ايران آنذاك في تفريطهم بحقوق الناس وتسخيرهم عبيدا يتم سحقهم في طواحين الاحتكارات الدولية يبقيهم في فقر وعوز وجهل ومرض وتخلف مع تورم لجيوب وبنوك وشركات اوربا وبريطانيا التي ابتزت موارد الاخرين ضمانا لتعظيم رساميل حفنة من طلاب القوة والثروة من الانكليز..

لقد كانت بريطانيا وبعد ان امتلكت اضخم اسطول حربي في تلك الحقبة المبكرة من التسلط على مقاليد ومفاتيح العلاقات الدولية حيث احتلت بريطانيا اغلب جزر وخلجان وخيرات العالم والشرق الاوسط والادنى بالذات لتصبح بريطانيا العظمى وتتمثل في امبراطورية لاتغيب الشمس عن ممتلكاتها..

اسطولها البحري امن السيطرة العسكرية التي وظفها الانكليز في تسيير اسطولهم من الناقلات التي استحوذت على اغلب موارد العالم لتعيد تصديرها مصنعة محققة وفرا بين سعر المواد الخام المستوردة دون السلع المنتجة صناعيا بنت من خلالها اكبر رأسمالية في حديث التاريخ..

وبذلك تلقت بريطانيا العظمى صفعة شيرازية على خدها الامبراطوري خلط العديد من الاوراق وداخل بين العديد من الخنادق واثبت السيد الشيرازي محمد حسن ان العلماء هم ورثة الانبياء وان النخبة العلمائية انما تشكل السقف المرجعي للدولة وهو خط سياسي/ديني نظّر له الامام محمد الشيرازي قدس سره بما سماه (شورى الفقهاء).. وفتوى ثانية اطلقها الحجة الميرزا محمد تقي الشيرازي طيب الله ثراه لشرعنة ثورة العشرين في العراق..

ثورة العشرين في العراق انما تمثل حركة سياسية/اجتماعية مظلومة اذ كثرت تسمياتها لتراوح بين (ثورة) وانتفاضة بل اطلق عليها(تمرد) وبانها ردة فعل نتج عنه تصادم (clash) بين الوسط العراقي العشائري البدوي الذي كان يعيش خارج العصر والتاريخ وبين التكنولوجيا الحربية الاوربية المتفوقة..

وقد راج مؤخرا وفي هذه السنة بالذات(2012) مايمكن ان نسميه ثلم جانب من الهالة التقديرية التي اطرت بها الثورة الى حد التلويح بإخراجها من حساب تاريخ العراق وكان من الافضل الا يختل موضعها بتبرير مفاده ان الثورة اجهضت عملية التحديث او التحول في مجمل الحياة العراقية آنذاك وبالأخص في منطقة الفرات الاوسط التي تشتد فيها الحاجة الى من يأخذ بيدها تخليصا لها من العوز والتردي الذي تعيشه..

ولست في موضع المجادل فالمشكلة ليست في تقويم حدث كثورة العشرين وانما المشكلة الاكبر هي في تاريخنا نفسه اذ مازالت ملفات هذا التاريخ مفتوحة وبعضها نازف يسهل تسييسها لمصالح خاصة بالحاضر..

لذا فثورة 30 حزيران 1920 تبقى معلما يشكل مرحلة مفصلية في حادثات التاريخ القريب عملت فتوى الحجة محمد تقي الشيرازي طاب ثراه على اعادة ترتيب الاولويات وفي مجال النزاعات بالذات..

كانت مثل تلك الانقسامات والخصام بين العشائر العراقية بسبب تقاطع الاعراف وقرب تحول القبائل العراقية من بدويتها الى وضع ريفي زراعي جديد مع حضور تعسفي للسلطة.

واقتحم العصر بكل اوربيته العراق باحتلاله عسكريا فكان ان تصدى العراقيون لهم وكانت القبيلة هي الوحدة المقاتلة.

الا ان ماكان يفرق العراقيين اكثر مما يجمعهم لتباعدهم مكانيا مع تردي المواصلات والاتصالات وانخفاض في مستويات الدخول ونقص حاد في التعليم لذا فقد حدثت ثورتان في اكبر بلدين عربيين هما العراق ومصر في 1920 و1919 لعب الحس الوطني والانتماء بالذات دورا كبيرا فيهما في مرحلة سابقة لتشكيل (الهوية).. فتوى الحجة محمد تقي الشيرازي طاب ثراه شرعنت الثورة كما ساعدت على تغليب صراع الخارج على صراع الداخل وامتد لهيب الثورة مغطيا حتى شمال العراق بما يؤكد عفوية عراقيتها..

ثم وصلت ثورة العشرين بغداد فقضت على سنين من التمزق المجتمعي في العراق بسبب حروب الولاءات اما لايران الصفوية او العثمانية السلطانية مورست بشكل شيعي/سني مالبثت ان ارتدت ثيابا طائفية اتسع شرخها في كرخ بغداد الذي سمي زمن ذاك بالصوب الصغير. اعادت ثورة العشرين الوعي المفقود للإنسان العراقي ومجتمعه وبمباركة من الحجة محمد تقي الشيرازي طاب ثراه فالتقى رجال الفرات الاوسط من العشائر واهل واحدة من اقدم بلدان الحضارة الشرقية واعرقها الوريث الشرعي لبابل ام العراق بغداد.

لقد تم توحيد اغلى مناسبتين دينيتين في العراق المولد النبوي وعاشوراء فانطلق – وبعد قرون من النسيان والاهمال والعسف – انطلق هلال العراق في سماء صافية فدخل اهلنا ليصلوا سوية في جامع الحيدرخانة.

جاء دور الشعر بعدها بنظم وصوت شاعر ثورة العشرين وابن الفرات الاوسط والحلة بالذات محمد مهدي البصير فانفجرت الثورة التي اقلقت حكومة الدولة المحلية فانحنى الصلف الانكليزي للإرادة العراقية ولكن تم سرقة ثورة العشرين بقيام النظام الملكي.

الميرزا محمد تقي والافغاني الكابلي والمفكر محمد حسين النائيني ترويكا (ثلاثية) احتاجها الواقع وعاداها التاريخ

هذا العنوان (الفرعي) ورغم الاطالة في صياغته فانه احد اهم الكواشف الضوئية على فترة من اهم الفترات التكوينية ليس في حديث ازمان العراق حسب وانما له ثقله – لو تم – على تاريخ منطقتنا بأكمله وقد يكون له امتداد كوني.

ثم انه يرتبط وبوضوح بالدور السياسي الفعال للمدرسة الشيرازية في تشكيل الاسس الساندة والحاضنة للقادم من النظم السياسية ودور الاسلام السياسي ومكانة الفقيه او الفقهاء في تجسير الهوة بين الامة ودينها والسياسة وتدينها وصولا الى بناء الدولة.

الجديد والمفيد وانا اقرأ دارسا وباحثا الامام الشيرازي قدس سره ان سماحته قد ورث مثل هذه الانجازات التي حاولت صنع التاريخ، عمل سماحته على احيائها وتوظيفها بإسلوبه الفذ وشخصيته التي فرضت ثقلها النوعي على الايام صاغها في كتابه عن تاريخ العراق الحديث.

جمال الدين الافغاني كما درجت تسميته هو جمال الدين بن حبتر الكابلي – نسبة الى كابل عاصمة افغانستان – الافغاني الحسيني الشافعي.

اشتهرت كنيته بالسيد للتفريق بينه وبين تلميذه وملازمه الشيخ محمد عبده الفلاح المصري الذي شغل مركز الافتاء في الديار المصرية مثله مثل الفلاح الضابط احمد عرابي الذي وصل الى رتبة اميرالاي (لواء) وهي رتبة عسكرية يمنع ان يبلغها فلاح مصري في مجتمع تسلط عليه المماليك الاتراك حكاما والخواجات في الادارة والتجارة والتعليم، وكان عرابي اللواء الفلاح المصري هو رائد ثورة 1919 في مصر وان اختلف معه محمد عبده فامتنع من تأمين الشرعية لها وعدّه خروجا على ولي الامر.

فالافغاني جمال الدين – رغم كل ما اثير ومثار حول شخصه وسلوكه وعلاقاته – فانه احد اهم من اسهم في ايقاظ همم اهل الشرق بعد ان نسوا ازمان انجازاتهم فناموا وصدق عليهم القول بانهم ادمنوا النوم تخلفا حتى طمى الخطب واشتكى منهم الترب..

لقد كان السؤال الذي حير السيد جمال الدين الافغاني والذي حرك اهل الشرق المسلم – ونحن منهم – هو الآتي: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟

ادرك الافغاني جمال الدين ان التخلف ليس طبعا أو قدرا وانما هو سلوك وثقافة تحتضنها سلسلة من الاحباطات.

لقد ادرك الافغاني ابعاد لعبة الامم واندمج في لعبها مستهديا بقوله تعالى (ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم). لذا فقد وضع تصورا حوّله تخطيطا اشفعه باليات لكي يدرك اهل الشرق المسلم اهمية ان يغيروا ما هم عليه من فقر وجهل ومرض وانغلاق وشك وخوف وخرافات وتشاؤم وتسليم بانهم انتهت همتهم في الماضي وان الحاضر لايمكن ان يحقق انجازات الا اذا بدأ كما بدأ الماضي.

ولما كان ذلك صعبا ان لم يكن مستحيلا لان الراهن يفتقر الى رجال كبار في مكانتهم سامقون في قاماتهم تستوعب احلامهم كل الطموحات مع تضحية وايثار والبديل هو الانتظار.

وقد استغل الاخرون (الضد) حالة القلق والانتظار فعاثوا في ارضنا فسادا وفي خيراتنا نهبا وفي مستقبلنا عسفا.

وفي مقابلة اخترق فيها السيد الافغاني اعتى الحلقات الاستعمارية ممثلة ببريطانيا العظمى فاجتمع مع مستر بلنت وزير المستعمرات البريطاني وكان اللقاء مثيرا بدأه السيد الافغاني بسؤال بعد ان سأله بلنت مباشرا: ماذا تريد مستر (سيد) افغاني وكان الجواب مزلزلا وكالآتي: مستر بلنت اريد ان استبدل ثلاثة بثلاثة (3 aganst 3) اعطيك والكلام للافغاني: اعطيك افغانستان والهند وايران وتعطيني مصر والعراق وبلاد الشام.

ثم انتهت المقابلة فقد ادرك بلنت وزن محاوره ووصل الحال الى تقييد تحركه وحصره في اضيق الحدود.

ولاختراق دائرة القيد عليه فكر في الاجتماع بالحجة السيد محمد تقي الشيرازي طاب ثراه بعد ان بدأ الافغاني بمصر ثم اراد التحرك نحو العراق.

اتصل السيد جمال الدين الافغاني بمحمد حسين النائيني الذي شغله سؤال الافغاني الملح: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وهم خير امة اخرجت للناس فالخلل في المسلمين اذن..

محمد حسين النائيني كان قد وضع كتابه اللافت للنظر: (تنبيه الامة وتنزيه الملة) وراسل احد موقظي الشرق عبد الرحمن الكواكبي مؤلف (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد).. وسّط السيد الافغاني النائيني لجمعه بالميرزا محمد تقي الشيرازي في مقره بسامراء ولكن ذلك لم يحدث وفاتت فرصة كان ممكنا ان تغير وجه الشرق المسلم..

الامام الشيرازي على نهج اسلافه

عندما شرعت في البحث عن الامام الشيرازي انتصب من خلال علمه وفقهه وفكره وكتاباته ومحاضراته وجهده في ترجمة كنزه المعرفي بشكل مؤسسات امتدت من العراق الى الكويت فقم ايران وانتشرت في اسيا وصولا الى شمال الهند وافغانستان وباكستان وماليزيا واندونيسيا وامتدت الى افريقيا ثم عبرت الى اوربا وامريكا الشمالية.

لذا فقد انتصب امامي الامام الشيرازي رضوان الله عليه جبلا شامخا لاتهزه الريح على قوتها، وظهر لي بتاج عمّته السوداء ووجهه المشع بنور الامامة مع حمرة خجل التواضع تؤصّل انسانية الانسان وقامة تحدت الزمن. قرأت في تلك الملامح الآسرة ان الرجل الامام لايكفي ان يفهم او يعرف من خلال الدعوة والمنبر والتبليغ والخطبة والكتابة والتدريس بدءا من التعبير وانتهاءا بدرس الخارج وفتاوى كرجل دين نذر نفسه لربه سبحانه وتعالى ولنبيه صلوات الله عليه وعلى آله وسلم ثم الشرب من نهر الائمة الدافق سلام الله عليهم.

لم يقف الامام الشيرازي قدس سره عند ذلك – وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى وحب الناس له والتفافهم حوله واهل كربلاء بالذات – لذا فقد احيا تراث اسلافه من اقطاب المدرسة الشيرازية المباركة وبالذات سلفه وجده الميرزا محمد تقي الشيرازي طيب الله ثراه.

لقد تميز الامام الشيرازي قدس سره بانه يحمل هموم مجتمعه كربلاء والعراق فالشرق باسره ثم العالم يؤكد هذا الصفة الكونية للإمام الشيرازي رضوان الله عليه اذ حمل لواء التصدي للظلمة من الحكام وفي المقدمة من ذلك المتسلطين على زمام السياسة وصنع القرار وفي فترة من اكثر الفترات في تاريخ العراق الحديث قلقا فقد انقضى العهد الملكي وعم خط الانقلابات العسكرية وانقسم المجتمع (وبعد قرون من الطاعة ومعادلة الراعي والرعية وعامة وخاصة وانه ليس كل مايعلم يقال) ودخلت المدرسة والكتاب والمعلم والمنهج واخذ مايعلم يوازي مايورث، وبدأ الدخل النقدي يؤثر في التعامل واختفت دارجات شعبية فلكلورية ان تصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب..

ثم تعاظمت صيحة الخمسينيات (مواطنون لا رعايا) وحدث تقسيم جديد في المجتمع حيث برزت الجماهير بديلا للعامة، والنخبة بديلا للخاصة، وانتشر الاعلام المسموع والمقروء وسهل الوصول الى المعلومة وبدأت القيم المدنية في الانتشار، فبرزت مفاهيم كالحرية وحقوق الانسان والشورى (الديمقراطية) والدولة المدنية، وان الشرعية للناس وان التجهيل لايقل ألما عن الجهل..

هذه المفاهيم وفي المقدمة منها الحرية انما كانت الشعل الشاغل للإمام الشيرازي حتى انه يكرر في كتاب عن الحرية صدر في كربلاء ربطها سماحته بالشورى والدولة المدنية.

لقد سبق وعرضت ان رجال النهضة الذين سموا بالنهضويين او التنويريين انما بنوا فكرهم (الاصلاحي/التغييري) على تساؤل قد يصل الى مستوى الإشكال او الإشكالية التي تمثلت في السؤال المركزي والسؤال القضية (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟)..فاين الخلل؟ لابد من التشخيص. فهل المشكلة في السياسة (الحكم) او التدين او الاقتصاد او الثقافة؟ وكلها قابلة للتفسير والتبرير.

لقد اكتشف الامام الشيرازي ان مشكلة المشاكل انما يكمن بفساد الحكم وان هذا الفساد انما تثيره الانظمة الديكتاتورية (الحكم الفردي المتعسف) الذي يشخصن السلطة في فرد يجمع السلطات بيده زائدا استحواذه على المال العام (مال الحاكم) كما ان الامن هو امن الحاكم وان هذا الحاكم اذا اصاب فلكم اما اذا اخطأ فاين خطأه، هو الاخر يوزع عليهم فهو عادل في ظلمه..

لقد ركز الامام الشيرازي قدس سره على ان ظلم الحاكم انما يمثل جذر الجور وهو أسّ الفساد كأن يكون الناس على دين ملوكهم.

اما السؤال القضية الذي دار حوله جلّ الفكر الاصلاحي/التغييري لسماحة الامام الشيرازي فهو الآتي: كيف تكون انسانا مفيدا؟ والاجابة على السؤال تضع في الحساب السلوكي، الانسان مطلقا لأنه قيمة القيم فقد كرمه رب العالمين سبحانه بان جعله (خليفة) رجلا كان او امرأة. لذا فيقال في الكتابات التنموية الراهنة ان الانسان هو الوسيلة والغاية في آن واحد.

هذا هو انسان الامام الشيرازي وهو مقصده في الوعظ والاصلاح ودافع عنه وجسّر الفجوة بين الانسان والدين وصيّره لخير الانسان سيما ونحن نريد ان نسمو بإنساننا العراقي/العربي/ المسلم/الشرقي/الى العالمية يصدق على جمعهم انهم خير امة اخرجت للناس.

هذا هو انسان الامام الشيرازي والذي جد وتعذب وتغرب لكي يعظم قيمته ومنه لايقف في وجه من يقلل او يذل هذا الانسان الذي يخلف رب العزة جل جلاله في ارضه.

فكيف تنتهك هذه القيمة العالية وتلتف حول رقبته القيود، ومن الحاكم الذي يناط به الحفاظ على الانسان دم وعرض ومال. هذا الحاكم الذي يوكل اليه وضع القرارات التي ترقى بالإنسان وتؤهله ان يكون خليفة في الارض، لذا فقد هاجم الامام الشيرازي انظمة الجور اي الانظمة الشمولية (الدكتاتورية) التي تحاول بجهل او عن قصد النزول بالإنسان انحدارا كي يسهل تخويفه بعد ان تم تجويعه ثم يأتي التجهيل لكي تنغلق الدائرة الملعونة التي اخرت انساننا المسلم وتقدم الاخرون.

الانسان القيمة الذي دافع الامام الشيرازي عنه بعلمه وفقهه فنذر عمره الشريف له زاهدا عابدا قانعا صابرا محتسبا، واضاف سماحته ان مثل هذا الانسان القيمة لابد ان يكون (مفيدا).

فماذا يعني الامام الشيرازي بالإنسان المفيد، انه ذلك الذي ينفع الناس، وبذلك يؤطر سماحته الانسان القيمة بإكليل الفائدة وبالأخص في عصر العلم والتكنولوجيا الذي تزهو قيمة الانسان بما يعمله وبحسن عمله.

وبذلك يؤسس الامام الشيرازي لمجتمع انساني، انسانه قيمة مفيدة فاذا اجتمعت في الانسان صفتا انه خليفة رب العالمين سبحانه في الارض ثم زاد على هذا طبعه ان يكون مفيدا اي ان يكون منتجا فيكون بذلك ندا يقف في وجه الحاكم الظالم المتعسف الديكتاتور الذي ادمن الحط من قيمة الانسان لتسهيل طاعته وسهولة حكمه.

يفتح ذلك الطريق – وبفعل فكر الامام الشيرازي- امام مجتمع يعود بأفراده (ناسه وشعبه) من ان يكون خارج التاريخ ليحل وسط دائرة الفعل والقرار الحضاري فيسترد قيمته ومنتجا ينتفع بموارده وخيراته.

وانسجاما مع توجه الامام الشيرازي عن الانسان المفيد المساوي للمنتج فقد اهتم سماحته بالاقتصاد وهو العلم الفيصل الذي يرتقي بالفكر الى مستوى العقلانية..

وكتب سماحته (قدس سره) في ذلك فقه البيع وفقه المكاسب المحرمة وفقه التجارة، وبذلك تكاملت نواهض المدرسة الشيرازية ليس في الفقه والوعظ فحسب وانما في العلم مما يؤهلها الدخول في ارقى دوائر المعرفة..

ولعل افضل ما اختم به ان سماحة الامام الشيرازي (قدس سره) وسيرا على نهج اسلافه وبالأخص الميرزا محمد تقي الشيرازي فقد اجتمع في داره بكربلاء المقدسة مع الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق في عهد عارف وطلب منه ان يكون الوطن للجميع اذ يصعب ان يحكمه السنة او الشيعة وان سلوك الحاكمين وتعطيل اكثر من نصف قوة الفعل والعمل في العراق باسم الطائفة الحاكمة قد يقود العراق- وهذا ماحدث بالفعل – الى ان يبنى المشهد السياسي على (المحاصصة).

هذه هي النظرة المستقبلية اشّرتها فراسة الامام الشيرازي والتي تميز عقل الامام فتؤكد فرادته والخصب الذي تميز به مكنه من ان يخترق حجب المستقبل فيكون مبشرا ونذيرا.

لذا فاني اوصي بالاتي:

1- ان يقام يوم للراحل الفذ الامام الشيرازي في كربلاء المقدسة يفضل ان يكون نفس اليوم الذي اجتمع فيه سماحته مع الدكتور عبد الرحمن البزاز وحذره من المحاصصة.

2- ان تقرأ كنوز الامام الشيرازي الراحل وهي دائرة معارفه ومؤلفاته في الاصلاح وكتاباته عن تاريخ العراق القريب.

3- قراءة فصوص حكمه وحكمته وفهمها في ضوء متغيرات العصر.

4- جمع تراث المدرسة الشيرازية لكل قاماتها وقممها وقيمها في الاصول والفقه والحياة.

5- اعادة قراءة كتابات الامام الراحل في الاقتصاد واغناء الاقتصاد الاسلامي بها.

* الكلمة التي القيت في المهرجان التأبيني في الذكرى الحادية عشر لرحيل الامام الشيرازي (قدس سره)

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net