التحديات المعاصرة في مئوية الثورة العراقية الكبرى

التحديات المعاصرة في مئوية الثورة العراقية الكبرى

وقائع و أحداث تقلب منحى التأريخ و تكون نقطة الانقلاب الجذري لبعض الأمم و الملهمة لأجيال قادمة..أحيانًا يُخلِّدها التاريخ و يعيد ذكراها مرارًا، و البعض الآخر يعفو عليها الدهر دون ان تُحيا أو تُذكر.. و منها ثورة العشرين و هي محطةٌ أُهملت لكن بعد مرور قرن من الزمان جميل أن نحيي ذكرى هذه الثورة التي انطلقت شرارتها في عام ١٩٢٠ ومنها جاءت تسميتها بهذا الاسم.

ثورة انطلقت في كربلاء المقدسة في النصف من شعبان لعام ١٣٣٨ للهجرة بفتوى من قائد الثورة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي حينما أفتى بمقاومة الاستعمار البريطاني؛ فاجتمعت الزعامات العشائرية و القيادات السياسية في صحن الإمام الحسين عليه السلام، و منها إلى سائر أنحاء العراق، و كان الهدف منها المطالبة بالحقوق المهدورة، و تفاصيل الأحداث قد وردت في التأريخ. (١)

و رغم أنَّ العالم المعاصر يحتفل و يُعظِّم المناسبات أو الأحداث التي تركت تأثيرًا هائلًا على مصير الأُمم و خاصة حينما يمر عقد من الزمن أو عقدين أو ربع قرن أو نصف قرن أو قرن عبر وسائل الإعلام و عبر المثقفين أو السياسيين أو  أصحاب الفن أو أمثالهم، فإنَّ مئوية الثورة العراقية الكبرى لم تحظَ بمستوى الإهتمام الذي يناسبها، و لعلَّ شدة الضربة التي تلقتها القوى الاستعمارية المتمثلة بالاستعمار البريطاني وأذنابه كانت السبب في ذلك، فلقد بذلوا قصارى جهدهم لاخماد صوت الثورة في العراق. لكن الواقع مختلف تمامًا عن الإعلام، إذ لا تزال آثار ثورة العشرين ثابتة المعالم والرؤى رغم مرور مائة عام وحتى اليوم، و لا تزال بصماتها في يد كل مطالب حق، فلم تُنسى بعد لتحتاج لأي إعلام ليضخِّمها أو يبرزها أو حتى يذكر بها، بل على العكس؛ فإنَّها صنعت أحداثًا صامتة تأثّرت بها و أحداثًا صاخبة هي من نتائج تلك الثورة و إنْ لم تظهر ذلك في العلن، و مثلها كمثل مصطلح” الأكثرية الصامتة” في القاموس السياسي؛ و هي عبارة عن غالبية الشعب الذي لا يدخل في الصخب السياسي ولكنه يترك تأثيره حين الإنتخابات في الأنظمة الديمقراطية، و لذلك تسعى الأحزاب المنافسة لاختراقها و كسب رأيها أو شرائه.

و رغم انَّ العراق بلد الثورات و الانتفاضات الشيعية طوال التأريخ إلّا انه لم يشهد الا نسختين لهذه الثورة خلال مائة عام: إحداهما: انتفاضة آذار عام ١٩٩١م. و الأُخرى: مظاهرات عام ٢٠١٩.

و ما عداهما مما سمّي بـ الثورات بعد سقوط النظام الملكي في ١٤ يوليو ١٩٥٨ و حتى سقوط النظام البعثي في ٩ نسيان ٢٠٠٢، لم تكن إلا بعض الانقلابات  أو التدخّلات العسكرية.

ففي انتفاضة عام ١٩٩١؛ التي اندلعت بعد حرب الخليج الثانية و بعد مقاومة نادرة؛ قُمعت بوحشية راح ضحيتها أكثر من ٣٠٠ ألف مواطن و منهم النساء و الأطفال و الشيوخ و لا تزال المقابر الجماعية تُكتشف بعد الحين و الآخر رغم مرور ثلاثة عقود على قمعها.

أمّا مظاهرات ٢٠١٩؛ التي انطلقت في أنحاء العراق ضد اللاعدالة و الفساد بأنواعه، في زمن قد اصطبغ النظام فيه بصبغة ديمقراطية ومدنية، و استمرت الاحتجاجات مدًّا وجزرًا حتى قمعت هي الأخرى بشكل مشابه نوعًا ما.

و رغم تفاوت النظامين – نظام ١٩٩١ و نظام ٢٠١٩- لكنه يمكن القول إنهما استلهما بعض الخصوصيات من ثورة العشرين؛

يقول الشيخ رضا الشبيبي -وهو من رجال ثورة العشرين-: “هنالك عاملان أوجدا الثورة: أولًا: العامل الاقتصادي حيث الضغط و الاستغلال الاقتصادي.. و ثانيًا: الضغط السياسي ومنع حرية التعبير  و الحيلولة بين أبناء البلد و بين التعبير عن آرائهم و المطالبة بحقوقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم و اختيار حكامهم و حكومتهم بملء إرادتهم..”. (٢)

و إذا كانت السمة البارزة في انتفاضة ١٩٩١ هو العامل الثاني و كبت الحريات بقوة الحديد و النار، فإنَّ ما برز في مظاهرات ٢٠١٩ هو العامل الاقتصادي نتيجة فساد مؤسسات الدولة و نهب و استئثار أموال الفقراء من أبناء الشعب بواسطة أصحاب السلطة.

ذلك بالإضافة إلى العامل المعروف؛ و هو سيطرة و نفوذ بعض القوى الخارجية؛ و الذي كان متمثلًا في الاستعمار البريطاني أبان ثورة العشرين، و في ٢٠١٩ قد تمثّل في تدخل بعض الدول المجاورة.

إلا إنّ ما بقي مغمورًا من أهداف الثورة و هو الهدف الأرفع و الأسمى الذي يمكن وضع كل العوامل تحت عنوانه؛ هو تطبيق “العدالة” بكلِّ معناها، و من هنا فإنَّ الأُفق يتسع ولا يمكن حصر ذلك في إطار المعيشة أو حرية الرأي أو حتى التدخل الخارجي، أو بعبارة أدق؛ فإنَّ كل ذلك يمكن اختزاله في العامل الثقافي. و من هنا يمكن الإشارة إلى تلك الميزة الثقافية التي تميزت بها ثورة العشرين و هو  التحالف الحاصل بين التيار الديني و التيار الوطني أو الليبرالي، و حسب المصطلح المتداول آنذاك بين”الأفندية” و “الملائية”.

و في هذا الصدد يقول المؤرخ علي الوردي: “حصل في عهد الاحتلال تعاون وثيق بين الأفندية و الملائية، و كان لهذا التعاون أثره الكبير في التقارب الطائفي الذي ظهر بوضوح في أيام الثورة. فقد كان من الظواهر الاجتماعية المألوفة في عهد الإحتلال حضور الأفندية إلى مجالس الملائية و تقبيل أياديهم و الجلوس بين أيديهم باحترام و خشوع. إنَّ الأفندية أدركوا ما للملائية من نفوذ قوي و كلمة مسموعة في أوساط العامة، و شعروا بأنهم يجب أن يتعاونوا مع الملائية لكي تكون دعايتهم المناوئة للاحتلال أشد تأثيرًا و أوسع نطاقًا”. (٣)

و يذكر نموذج من هذا التعاون: “كان الأفندية يلتقطون الأخبار السياسية من الصحف العراقية و الخارجية، أو من بعض المصادر الأُخرى التي هم أقدر على الإتصال بها، فيوصلون تلك الأخبار إلى الملائية، و يقوم الملائية من جانبهم بنشرها في أوساط الجماهير بغية إثارتها على الإنكليز”. (

و يحدثنا علي البازركان – و هو من أفندية بغداد- عن صِلاته الوثيقة بالعلماء و كثرة زيارته لهم، فيقول: و الحقيقة إنني في تلك الأيام كنت كثير التردد على قصبة الكاظمية لزيارة بعض الإخوان أمثال السيد محمد مهدي الصدر نجل السيد إسماعيل الصدر و الشيخ عبدالحسين آل ياسين و غيرهم من العلماء و الفضلاء. و في ذات يوم قال لي السيد محمد مهدي الصدر: إنَّ الشيخ محمد رضا نجل الإمام المرزا تقي الشيرازي جاء من سامراء أمس إلى الكاظمية للإطلاع على الحركة الوطنية في بغداد و الكاظمية، و قد زاره بعض إخواني..  فكاشفهم برغبته في الإتصال بزعماء الحركة.. و في اليوم الثاني ذهبنا إلى الشيخ محمد رضا نجل آية الله الشيرازي لزيارته و لتزويده بالمعلومات عن أعمال البغداديين الوطنية من الاجتماعات و إلقاء الخطب و المطالبة بالاستقلال و أنه سيعود إلى سامراء ليخبر والده بالأمر..”. (٥)

و إضافة إلى ذلك فإنَّ كربلاء المقدَّسة كانت مقرًّا للقيادة السياسية و الدينية و العسكرية للثورة، فهي في نفس الوقت مركزًا للحوزة العلمية والمرجعية الشيعية في العالم الإسلامي، فإنّها أصبحت مركز قيادة الثورة بزعامة الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي. و لم يكن منافس لينافسه. و ما إن استشهد الشيخ الشيرازي حتى بدأت المؤامرات تحاك لضرب كربلاء و انتقال العاصمة إلى خارجها حتى بدأت المنافسة بين المدن الثلاث؛ كربلاء و النجف و الكاظمية، و كما يقول المحقق الكرباسي؛ فإنَّ البريطانيون كانوا من وراء ذلك حيث بذروا روح الشقاق والخلاف بين هذه المدن حتى أصبحت المواكب الحسينية تتضارب فيما بينها حين تجتمع في مكان واحد من المدن الثلاث، و لأجل ذلك فقد أُلّفت اللّطائف و الطعون على المدن الثلاث، أو نُسبت إلى أهالي كل واحدة منها على أهالي المدينين الأُخرتين.(٦)

و بذلك بدأت ظاهرة التنافس غير السليمة بين المدن و المرجعيات و أخذت تتسع شيئًا فشيئًا  لتتسع البلدان الأُخرى و سائر القضايا.

عليه يمكن القول أن المطالبة بالعدالة هو الطريق الأول للوصول للحقوق المهدورة، فكلما زاد الوعي الثقافي بين الأفراد في فهم مفاهيم العدالة وتوابعها من “أخوَّة” و “تعددية” و “حرية” و “سلام”؛ كلما كان الطريق للوصول للهدف أقرب، وهذا ما انتجته ثورة العشرين بعد خوضها كتجربة حية في وعي الأمم والأفراد.

ولا يخفى أن مدرسة كربلاء المقدَّسة تتبنى هذا الجانب الفكري في طريق الإصلاح والتغيير. إذ لم يألو الإمام السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي جهدًا في سبيل استخراج كنوز ثورة العشرين التي ظلَّت مدفونة لمئة عام عبر تنظيراته لمبادئ “اللاعنف”، و “التعددية”، و “الحرية”، و “الأُخوّة” و إعادة مجد الحاضرة العلمية لمدينة كربلاء المقدَّسة و تطبيق الأفكار الحضارية لتلك المدرسة العريقة.

لقد كان سماحته ذو رؤية شمولية في سبيل تذليل صعاب عقبات التغيير  بإسلوب سلمي وحضاري عميق التأثير، و بعيد المدى. لأن الجانب الثقافي كفيل بتغيير عقلية الشعوب وبالتالي تحويل الأفراد إلى قوى فاعلة تسعى للتكامل و الانجاز و التعاون، كما أن هذا الجانب كفيل بتعريف الأفراد الطريقة الأمثل في المطالبة بالحقوق، فلو آمن الشعب بمبدأ “اللاعنف” مثلًا في مظاهراته حتى على مستوى رمي الحجارة أو تكسير النوافذ وتحطيم الممتلكات، لكان أبلغ صدى و أقوى نفوذًا في الساحة، ذلك لأنَّ العنف يدل على الضعف، كما أنه يعطي الذريعة لقمع المطالِبين بحقوقهم.

و أيضًا؛ لو آمنت جميع الأطراف المختلفة والمتباينة بمبدأ “التعددية”؛ فإنَّ الدولة ستحوي على كفاءات تتنافس إيجابيًّا لتبرز نفسها وجدارتها و ذلك سيولد جو من الصفاء و الازدهار و يمنع التنافر و التحاسد و الاستئثار في كل المجالات.

من هنا و بناءًا على ما سبق؛ فإنَّ فيوضات مدرسة  ثورة العشرين لا تزال مستمرة  ما دامت معاناة الناس مستمرة، تلك المعاناة التي أُضيف عليها هاجس الخوف من الموت بفيروس كورونا بعدما كانت منحصرة في هاجسي المعيشة و الكرامة الإنسانية.

 

الهوامش؛

(١) الشيخ محمد صادق الكرباسي؛ معجم المشاريع الحسينية، ج١، ص ١٦٢، من موسوعة دائرة المعارف الحسينية.

(٢) علي الوردي؛ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج٥، ص٨

(٣) علي الوردي؛ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج٥، ص ٣٨

(٤) علي الوردي؛ لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج٥، ص ٤٠

(٥) علي البازركان؛ الوقائع الحقيقية، ص٧٧

(٦) الشيخ محمد صادق الكرباسي؛ أضواء على مدينة الحسين عليه السلام، الحركة العلمية، ج١، ص٦٣، من موسوعة دائرة المعارف الحسينية.