ثراء الفقه الإسلامي في موسوعة الإمام الشيرازي

ثراء الفقه الإسلامي في موسوعة الإمام الشيرازي

بين الفينة و الأُخرى تتطرق إلى مسامعنا نداءات بضرورة ما يسمّى بـ “تجديد الخطاب الديني” أو “الإصلاح الديني” أو “تنقيح النصوص الدينية” أو مصطلحات من هذا القبيل، و غالبًا ما تطرح تلك الأصوات من قِبل التيارات الدينية أو الحداثة الدينية، و الهدف منها هو إظهار الدين بصورة و تناسب عقليات من لا يؤمن بالدين، أو تماشيًا مع الأطراف التي ترى الدين لا يواكب متطلبات هذا العصر.

أمّا التيار اللاديني أو (العلماني) -إن صح التعبير- فإنَّه يدعو صراحة إلى إلغاء الدين و حذف كل ما يمت إليه بصِلة، مستهزئًا بالنصوص الدينية و ساخرًا بالمؤمنين بها من خلال انتقاء بعض النصوص و تأويلها حسب الأهواء. و غالبًا ما  تكون العلة من وراء ذلك؛ هو عدم استيعاب المفاهيم الدينية، حيث إن هؤلاء لو فهموها لكان يثبت لهم بوضوح أنها لا تنافي متطلبات العصر و لا تعارض العلم و لا تحارب الحضارة أو الحداثة.

و لربما أنّ البعض منهم قد فهمها فعلًا إلا أنَّ الرغبات السياسية أو بعض المصالح الأُخرى ألزمته أن يطعن في الدين ظلمًا وطمعًا، وبالمثل هنالك منهم من رأى بعض الممارسات الخاطئة من قبل بعض المحسوبين على التيار الديني فأخذ جهلًا يشكك في أصل الدين.

من هنا و بناءًا  على هذه المقدَّمة؛ فإنَّ موسوعة الفقه الاستدلالي ذات المائة و الخمسين جزءًا للإمام السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي أثبتت أنه لم يكن الأمر بحاجة إلى تجديد الخطاب الديني و لا التنقيح و لا الإصلاح، كما أنّ شموليته و اتساعه في مختلف المجالات قد لبَّت كل متطالبات العصر، و إضافة إلى ذلك فإنَّ بلاغته و سهولة بيانه رغم عمق مواضيعه قد جعلتها قابلة للفهم و الاستيعاب مخاطبة الناس على قدر عقولهم، حيث رغم فكره التقدّمي، إلا أنه أصيلًا في مشربه الفقهي، و عميقًا في الفكر العقائدي.

و في هذا الصدد يقول الشيخ شاكر الناصر: “جاءت موسوعة الفقه واضحة في عباراتها متينة في تراكيبها، وهذه طبيعة في سماحته توجد في كل كتبه، إنه يكتب ناظرًا إلى مستوى من يقرأ له، لا إلى مستوى نفسه وكذا ينبغي أن يكون كل كاتب، و لا يظنن أحد أنه ليس بمقدور السيد أن يخرج عن ذلك ويصنف كتبًا يستخدم فيها أسلوبًا لا يتيسر فهمه للكثيرين إلا بمدرس يشرح لهم العبارة كما هو الحال في كفاية الآخوند الخراساني مثلًا، إذ لو أراد سماحته أن يجري في هذا المضمار لما بزّه أحد فيه وكتابه الأصول (مباحث الألفاظ) يشهد له بذلك، إذ أن من يقارن بينه وبين أحد أجزاء موسوعة (الفقه) يرى الفرق بيّنًا”. (١)

و مع أنَّ هذه الموسوعة الفريدة جاءت في باب الفقه و هو ما يرتبط بفروع الدين من عبادات و معاملات، إلا أنه لم يغفل عن الجوانب الاجتماعية و السياسية و دراسة الظروف التي أدّت إلى إصدار الحكم و الحكمة منها.

و في هذه العجالة نذكر بعض النماذج و التي منها؛ هنالك رواية معروفة تحثّ على عدم التزويج من الأكراد على داعي أنّهم من الجن، و قد اختلط فهم هذا المعنى عند الكثيرين منهم بعض المراجع و العلماء و المثقفين، فكان منهم من صرّح بكراهية الزواج من القومية الكردية المعروفة، و منهم من ضعَّف هذه الرواية و طعن فيها، و منهم من استهزأ بها بشكل خاص و بالشريعة بشكل عام .

إلا انَّ للإمام الشيرازي رأي يطابق الحقيقة حيث يقول: ” إنَّ المراد بالرواية غير ما يتبادر بدويًا من ظاهرها، فإنَّ الأكراد من (كرد) وهو الذاهب إلى الجبل، فالمراد به أهل الجبال، حيث إنهم مثل الأعراب الذين قال سبحانه فيهم: الأعراب أشدُّ كفرًا و نفاقًا، فإنَّ طبيعة أهل الجبال الابتعاد عن الحضارة الدينية والمدنية، فالمراد الجفاة، كما أن المراد بالأعراب أهل البوادي الذين هم أهل جفاء وغلظة، فيشمل كل أهل بادية، عربًا كان أو غير عرب، كما أنَّ المراد بالأكراد على هذا كل أهل جبل، كرديًا كان أو غيره، بل الظاهر أن الأكراد إنما سموا أكرادًا لذهابهم إلى الجبال، فلا يشمل الحديث العنصر الكردي المعروف.” (٢)

أما النموذج الثاني؛ فمحاولة التيارات المذكورة سلفًا بالتشنيع و الطعن ببعض الأحكام الإسلامية كـ موضوع جواز التمتع بالصغيرة قبل البلوغ، وقد وقع في شَرَك هذا الموضوع من لا علم له بحيثياته فصاروا في دوامة بين النفي و الضعف والطعن، في حين إنَّ الإمام الشيرازي قد وضّح بداية أنَّ هذا التشريع جاء في ظروف تاريخية معيّنة و في زمن كان أمر القاصرات من الإماء بيد التجار و النخّاسين، أي أن هذه الأحكام وضعت أصلًا في باب الإماء و  العبيد لا في باب النكاح المتعارف، ومنه يتبين أن الاسلام أراد  أن يحفظ حقوق المرأة وإن كانت أمة أو قاصرة، بداية بحرمة الدخول قبل البلوغ ثم كراهية مطلق التمتع قبل البلوغ، (٣) ثم الإقلاع التام، كـ التدرّج في حرمة الخمر أو  كـ الدعوة إلى تحرير العبيد الذي كان للوعي والمجتمع أثره في تركه بعد أن حثّ الإسلام على العتق بطرق مختلفة في باب الكفارات والاستحباب وغيرهما مما أدى إلى انتهاء العبودية في المجتمع الإسلامي.

و في هذا الصدد يقول الإمام الشيرازي: “تعارف تلك الأزمنة وطي الجواري الصغار، حيث تتداولهنّ الأيدي من آسر إلى نخاس إلى تاجر إلى غيرهم، فإذا اشتراها إنسان وقد أزيلت بكارتها عندهم أو في بلاد الكفر لعدم اهتمامهم بغشاوة البكارة كما هو المتعارف الآن عند شيوعي الشرق وكفار الغرب، ولذا ينقل ذهاب بكارة كثير من الصبايا بإخلائهن أو ما أشبه”. (٤)

و يؤيد هذا القول ما جاء في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام: “لا يقع في أيدي النخّاسين شئ إلا أفسدوه”. (٥)

و بما أنَّ الموضوع ليس محل ابتلاء كمسألة الإماء و العبيد التي انقرضت فإنَّ التمتع بالرضيعة أيضًا قد انقرض و لذلك لا يتعرّض لهذه المسألة أكثر مما ينبغي. (٦) و لا أثر عملي لمثل هذا الحكم في زماننا هذا سوى إلقاء هذه النظرية؛  أنَّ الفقه الإسلامي لم يترك ثغرة إلا و سدّها و ذلك للحفاظ على جميع فئات و مكونات و طبقات المجتمع، فللإسلام نظام إجتماعي رصين قد تفتقده سائر الملل و النحل؛ فهو ينظر إلى الزواج مثلًا على أنه جاء للتتأطير لا للإباحية، و ما أمر قيمومية الرجل للمرأة إلا من باب رعايتها و إعطاء حقوقها، و لا السيطرة و الحكومة عليها، و لذلك فإنَّه بمجرد أن يعقد الرجل على المرأة فإنَّ الولاية تنتقل من والدها إلى زوجها.

و قد يطرح هذا التساؤل؛ لماذا لم يصل أمر الإماء و العبيد للحرمة المطلقة كحرمة الخمر؟، و في مقام الإجابة يمكن القول؛ أنَّ نظرة الإسلام هي نظرة بعيدة المدى فهو دين صالح لكل زمان ومكان، فلحكمة يعرفها الشارع سواء كانت سابقًا أو قد تقع في المستقبل، فإنَّ أحكام ذلك لا تزال محفوظة سواءًا الأحكام المبتلى بها أو التي ليست محل ابتلاء على حد سواء.

 يقول الإمام السجاد علي بن الحسين عليهما السلام: “إنَّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة و الآراء الباطلة و المقاييس الفاسدة، و لايُصاب إلا بالتسليم، فمن سلَّم لنا سلم، و من اقتدى بنا هدي، و من كان يعمل بالقياس و الرأي هلك، و من وجد في نفسه شيئًا مما نقول أو نقضي به حرجًا كفر بالذي أنزل السبع المثاني و القرآن العظيم و هو لا يعلم”. (٧)

و من هذه النقطة تتفرّع نقطة أُخرى؛ فنعرج إلى نموذج في أمر الاسترقاق و ذلك في حالة الحرب؛ حيث يرى الإمام الشيرازي أنَّ مسئلة استرقاق أسير الحرب جاء من أجل الحفاظ على حياة الأسير أولًا، ثم لدرأ الخطر عن المجتمع، و من ثم اندماجه داخل المجتمع الإسلامي؛ “ذلك لأن حرية الأسير تتزاحم مع أمن المجتمع لكونه عدوًا يتحين الفرصة للعودة إلى الإضرار، و أمن مجتمع أهم من حرية فرد أو مجموعة كما هو واضح، وأن خيارات القائد في التعامل مع الأسير خمسة: ١. العفو بمقابل (الفداء)، ٢.العفو دون مقابل (المن)، ٣.السجن، ٤. القتل، ٥. الإسترقاق.”(٨)

فاسترقاق الحاكم لأسير الحرب واجب تخييري ليس حتمي، وخيار الحاكم مع الأسرى يكون وفق المعايير التالية: “فمن لا حول له و لا طول ولا إمكانية له مَن عليه وأطلقه مجانًا، ومن له إمكانية ولا يخشى منه أخذ منه الفداء، و من يخشى منه بقدر سُجن حتى اذا استتب الأمر و ذهب الخوف من تآمره أطلق سراحه بعد مدة من السجن، ومن كان متآمرًا لا يصلح بقاؤه بأية صورة قُتل، ومن لا يكون من تلك الطوائف ويُخشى تآمره إذا أطلق سراحه مما يصلحه إذا كان تحت نظر إنسان أُعطي للمسلمين ليكونوا مشرفين على نشاطاته وفي عين الحال يكون مطلق السراح في البيع والشراء والعمل ويكون بذلك مستعبدًا”. (٩)

 من هنا و بناءًا على ما سبق؛ فإنَّ ما يطرحه بعض الجهات تحت عناوين “الحداثة”  و “التنوير” و “تهذيب” النصوص، إنما هو ناشئ عن قصور في الفهم – سواءًا بقصد أم غير قصد-، مع أن التراث الإسلامي لا يعارض الحداثة و الأسلوب المتجدد، و موسوعة الفقه الاستدلالية آية على ذلك حيث صدرت من قِبل من له درك عميق في معاني النصوص.

يقول الشيخ مرتضى معاش: ” لابد من تعميق روح التأصل الواعي وتجديد الثقة بالذات وبحضارتنا.. ولا شك فإنَّ طرح تراثنا بأسلوب متعقل و متجدد يمكن أن يعيد الكثير من الثقة لأبنائنا ويعرفهم بحقيقة حضارتهم وكنوزهم المخفية، مع ضرورة التوفيق بين التراث والحداثة لإيجاد قوة في أفكارنا قادرة على التوافق مع التقدم الزمني والعلمي”. (١٠)

من هنا يتضح أن الدين و العلم وجهان لعملة واحدة لأن الشارع هو الخالق وهو أحكم الحاكمين، و عليه يمكن القول: إنَّ الدين الإسلامي علماني بمعنى انه قائم على العلم، إذ العلمانية بمعناها الصحيح تنطبق على الإسلام، أما العلمانية الغربية بما أنها جاءت كرد فعل على الكنيسة التي كانت تدين بالعنف و تتخذ أساليب غير علمية، فلذلك اتهم مسمى الدين بشكل عام بمخالفته للعلم. (١١)

الهوامش؛

(١) الشيخ شاكر الناصر؛ الإمام الشيرازي من خلال موسوعة الفقه الإستدلالي، مجلة الحكمة، العدد الأول، شتاء ١٩٩٤.

(٢) الإمام الشيرازي؛ موسوعة الفقه، ج٦٢،  كتاب النكاح، ج١، ص ٧٣.

(٣) الإمام الشيرازي؛ موسوعة الفقه، ج٦٢،  كتاب النكاح، ج١، ص ١٤٩.

(٤) الإمام الشيرازي؛ موسوعة الفقه، ج٦٢،  كتاب النكاح، ج١، ص ٣٥٩.

(٥) ثقة الإسلام الكليني؛ أُصول الكافي، ج١، ص ٣٠٤.

(٦) الإمام الشيرازي؛ موسوعة الفقه، ج٦٢،  كتاب النكاح، ج١، ص ٤٠٣.

(٧)  الشيخ محمد باقر المجلسي؛ موسوعة بحار الأنوار، ج٢، ص ٣٠٣.

(٨) الإمام الشيرازي؛ موسوعة الفقه، كتاب العتق، راجع البيع، ج٣، ص ١٦٣. و الفقه السياسة،  ج٢، ص ٢١٤.

(٩) الإمام الشيرازي؛ الفقه الاقتصاد، ج١، صص ١٢٦- ١٢٧.

(١٠) الشيخ مرتضى معاش؛ المعلوماتية و آليات الاستيعاب، مجلة النبأ، العدد ٥٢، شهر رمضان ١٤٢١/ كانون الأول ٢٠٠٠.

(١١) الشيخ محمد صادق الكرباسي؛ الحسين عليه السلام و التشريع الإسلامي، ج١، ص ١٥٤، من موسوعة دائرة المعارف الحسينية.