الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين محمد رسول الله وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا {الأحزاب/23}
يأتي مرور عقد على رحيل المجدد الثاني المرجع الراحل آية الله العظمى الامام السيد محمد الشيرازي (اعلى الله درجاته) في ظروف استثنائية يعيشها العالم اليوم، حيث ثورات الربيع العربي تلتهب في ضد الظالمين والطغاة، والعالم يعيش ازمة اقتصادية خانقة وعلى شفير انهيار كبير.
واليوم اذ نستعيد هذه الذكرى الجليلة تطل علينا الافكار الكبيرة التي طرحها الامام الشيرازي في مجموعته الالفية حيث تنبأ في هذه الكتب بالكثير من الاحداث التي وقعت بالاضافة الى ما وضعه من افكار ورؤى حول سبل النهضة والتغيير والاصلاح في الامة.
فقد منح النتاج الفكري المتدفق من العمل الموسوعي للامام الشيرازي قابلية التربع على الساحة الفكرية من خلال بصماته الواضحة على كل مقطع زمني عاشته الأمة الإسلامية في حياتها المعاصرة حيث انبثقت من تجربته السلمية الناضجة الحكيمة افكارا ملهمة للاجيال الصاعدة.
ولعل من أبرز مظاهر ذلك التربع طروحاته في الحرية والتعددية والشورى والأمة الواحدة والسلم واللاعنف والضمان الاجتماعي والاقتصاد المضاربي وحقوق الانسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل وحرية الانتخابات والتداول السلمي للسلطة وبناء المؤسسات الحضارية.
لقد كان الامام الشيرازي من الذين استشرفوا الأزمنة القادمة، وما تنطوي عليه من أحداث جسيمة قبل وقوعها، وذلك من خلال امتلاك الرؤية البعيدة، والعقلية الاستراتيجية، التي تستشرف المستقبل وكأنه واقع، حيث رأى اهمية الحاجة الى مبدأ اللاعنف، في مقارعة قوى البطش والقمع والظلم، واللجوء الى التظاهر السلمي، وإن ما يحدث الآن في الشرق الاوسط، من عصيان مدني، ومظاهرات، طابعها العام هو السلم، كان قد استشرفه الامام الشيرازي، قبل عشرات السنين، ليؤكد حاجتنا الى الجهاد السلمي، ونجاحه في تحقيق الاهداف المشروعة للجماهير، في كفاحها من اجل ازاحة الانظمة القمعية، لتحل محلها أنظمة أخرى، تمثّل الشعوب بصورة صحيحة.
فقد دعا الامام الشيرازي الحركات التغييرية والاسلامية منذ عقود عديدة الى نبذ العنف والعمل المسلح لانه لايحقق هدفا في عملية التغيير والاصلاح بل انه سيزيد الامر سوء ويؤدي الى تقوية الانظمة القمعية، وكتابه السبيل الى انهاض المسلمين هو بمثابة مشروع عمل متكامل للحركات التغييرية والاصلاحية حيث دعى فيه الى السلم والاكتفاء الذاتي والتنظيم والشورى.
كما تنبأ الامام الشيرازي بسقوط حكومات الاستبداد حيث رأى إنّ عدم تطبيق الشورى سيجعل الفاصلة بين الحاكم والمحكومين شاسعة وكبيرة.
كما دعا الى ضرورة العمل بمبادئ الحرية والاخوة والتعددية الحزبية التي تعتبر الاسس الفعالة لتحقيق النهضة الحضارية والتنمية الشاملة.
كما اعتبر ان البناء الفكري والتعبئة الثقافية هو الطريق لتحقيق عملية التغيير فالجهل وافكار التخلف والامية الفكرية والعقائدية هي السبب الرئيسي في الجمود والبقاء في عصر الظلمات والتبعية.
يقول المرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى الحاج السيد صادق الحسيني الشيرازي (مد ظله العالي): لقد كان الأخ الأكبر آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي – اعلى الله درجاته – يؤكد تأكيداً كبيراً – ضمن ما يؤكد عليه – على التعبئة الشاملة المتواصلة والمعمقة لإستيعاب ونشر ثقافة القرآن الحكيم وعلوم أهل البيت الطاهرين عليهم السلام. وكان (رضوان الله عليه) يركز على الإهتمام الأكثر بالتطبيق العملي للآيات القرآنية المنسيّات (عملاً) في معظم المجتمعات مثل آية الأخوة على صعيد الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات/10، وآية الامر بالمعروف والنهى عن المنكر: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ…) آل عمران/104، وآية الحريات المشروعة: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…) البقرة/256، وآية نبذ التكلّف في المعيشة والتزام التعايش: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ…) الاعراف/157، وآية الامة الواحدة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً…) الأنبياء/92، وآية بسط العدل والإحسان في شتى مرافق الحياة: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) النحل/90، وغيرها… وغيرها.
ويضيف السيد المرجع (دام ظله): كما إنه (قدس سره) وانطلاقاً من المسؤولية الشرعية وأوامر القران الكريم وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) في الإستجابة لله تعالى وللرسول (صلى الله عليه وآله)، كان يحمل هموم المسلمين المؤمنين ويعيش مشاكلهم ومآسيهم حيث كانوا في العراق وافغانستان وفلسطين وغيرها من سائر بلاد الإسلام والأمة الإسلامية في شتى بقاع العالم.
ان نجاعة هذه الافكار تدعونا وبعد مرور عشر سنوات على رحيله الى اهمية الاهتمام العميق بها ومحاولة فهمها، من هنا فأن واجبنا تجاه العلماء الربانيين والمصلحين العظماء الذين نذروا انفسهم وحياتهم لرفعة الدين والامة يدعونا الى ضرورة الاستمرار في مسيرتهم ومنهجهم وتطبيق افكارهم، وواجبنا بعد عشر سنوات على رحيل الامام الشيرازي يتمثل بـ:
1- عقد المؤتمرات والندوات وورش العمل لدراسة الافكار الاستراتيجية التي طرحها الامام الشيرازي ومحاولة استكشاف المناهج والاطروحات التي يمكن ان تحقق التغيير والاصلاح في الامة بما يؤدي الى نهضتها وصلاحها وتقدمها.
2- ترجمة الافكار الاستراتيجية الى مختلف اللغات لتطلع عليها مراكز الابحاث والتفكير ومؤسسات المجتمع المدني لكي الهاما مستقلا يعبر عن منهج اصيل يرتبط بشكل اكبر بقضايا وحقوق الشعوب.
3- اهمية التواصل مع المؤسسات الاكاديمية للاطلاع على هذه الافكار ودراستها بشكل منهجي ليتسنى للباحثين الجامعيين الاطلاع على رؤى وافكار من نوع آخر غير مطروح في مختلف المناهج الاكاديمية، كما يتم اقتراح على الباحثين افكار اساسية لتناولها في اطروحاتهم الجامعية.
4- قيام المؤسسات والمراكز الاسلامية في مختلف دول العالم وخصوصا في الدول الغربية بالتواصل مع الاحزاب والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني عبر عقد جلسات حوار مشتركة خصوصا في جانب التواصل والتعارف الحضاري حيث خلف الامام الشيرازي ارثا فكريا متميزا حول اسلوب التعامل الايجابي مع الغرب ورفع اسباب سوء التفاهم والنزاع والصدام.
5- اهمية تأسيس مراكز دراسات ومؤسسات علمية وثقافية لدراسة التراث الموسوعي للامام الشيرازي الضخم وتقديمه للعالم كواجب علمي وحضاري للاستفادة من هذا المنهل العذب.
ان الامام الشيرازي وبعد عشر سنوات على رحيله يمثل مشروعاً نهضوياً شاملاً ستستفيد منه الأجيال والعصور القادمة لانه يجسد مشروعا متجانس الأبعاد واسع الحركة في عمق التجربة الإنسانية الحية ويمثل الجسر الواصل بين الأصالة والحداثة، وقد يستطيع القادمون في المستقبل اكتشاف كنه الكثير من افكاره الانسانية الاصيلة.
فقد عاش المجدد الثاني الامام السيد محمد الشيرازي وارتحل غريباً، ولن تعرفه الدنيا إلا بعد مائتي عام كما قال ذلك آية الله العظمى السيد المرعشي (قدس سره).
قال الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام): هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَ أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ.