التطبيع و الخطاب الديني

التطبيع و الخطاب الديني

يمر على إنشاء ما يُعرف بـ (إسرائيل) سبعة عقود و عامان من الزمن، و للـ “القضية الفلسطينية” أيضًا نفس المقدار من العمر حيث استهلت عام ١٩٤٨، و خلال هذه الفترة تعرَّضت لمدٍ و جزرٍ كبيرين في مختلف مراحل التلاقي (الإسرائيلي) العربي ؛ من معارك عسكرية، مرورًا  بالجلوس على طاولة المفاوضات، و أخيرًا علاقات ودية و استراتيجية لم تحصل حتى بين الأشقاء العرب.

و بناءً على ذلك فإنّ الخطاب الديني الصادر عن (مشايخ) الأنظمة ذات الرمز الديني و تحديدًا (السعودية) كان مثيرًا للالتفات؛ فلقد بدأ  بوجوب الحرب و استعادة الكرامة و صحبته الشعارات و الخطب الحماسية في التحرير و عدم التنازل قيد أنملة عن الأرض، و تخللته التأييدات المطلقة لأساليب المقاومة و (الجهاد) و ذلك من خلال أحزابها الدينية “حركة التحرير” و مثيلاتها، أو من خلال منابر الجمعة حيث كانت الدعوات مطعّمة بالابتهال و التضرّع إلى الله تعالى للتعجيل في هلاك اليهود المحتلين و هي مصحوبة بالآهات و الدموع.

و بعد التطبيع الصادر عن النظام السياسي و ارتماء رجاله في أحضان (الإسرائيليين) تحوّل الخطاب الديني أيضًا الى النقيض تمامًا حيث أُلقيت الخطب في فضائل اليهود على المسلمين، بل و الاعتذار من اليهود حيث قُتلوا ظلمًا في المعارك،  تخللته الدعوة إلى ضرورة المحبة و الوئام و صلة الأرحام و الدعاء إلى الله تعالى لحفظ أبناء العمومة!.

وبعيدًا عن السياسة و أعلامها فإنَّ تغيير الخطاب الديني بمائة و ثمانين درجة من قبل المؤسسة الدينية كان أشبه بالعمل الساخر و الأدب الهزلي المبتذل، بل ويمكن  وضعه تحت عنوان صدِّق أو لا تصدِّق، حيث يمكن القول إنه قد فضح حقيقة وجود التجارة الدينية بشكلٍ صارخ و فجائي و غير طبيعي على خلاف ما كان يجري خلف الكواليس السياسية من طبخات هادئة و تدريجيية.

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يوظَّف فيها الدين لخدمة السياسة و أهواء الحاكمين، و حتى فيما يرتبط بالقضية الفلسطينية فإنَّ الخطاب لم يكن جديدًا حيث سبق و أن أفتى ابن باز في أواسط التسعينيات بمطلوبية الجنوح إلى السلم مع اليهود، لكن هذه المرة لم يألو أصحاب الخطاب الديني أي جهدٍ لإخراج الخطاب بشكل يتناسب و ذاكرة المخاطَبين حيث حسبوهم  مصابون بالزهايمر من نوعٍ ما !

فإذا كانت السياسة تصطبغ كل يوم بلون، و تتذرَّع في التكيّف و القبول بالأمر الواقع، فإنّ ذلك لا ينطبق على (الدين) و هو القائم على مبادئ و أُسس ثابتة لا يغيره الأمر الواقع مهما طال عليه الزمن.

 و عليه فإنّ أقل ما يمكن أن يوصف به الخطاب الديني الجديد؛ أنه جاء من باب الاستعباط و الاستهبال ليس إلّا.

و لا غرابة في هذا السلوك؛ ذلك لأنّه مبني على أساس قد وُضع عقيب رحيل رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم حيث اتخذوا الدين وسيلة للوصول إلى الحكم،  و استخدمت النصوص الدينية في تبرير سلوكيات الحاكمين.

من هنا؛ فلقد آن الأوان أن يستمع العالم إلى الصوت الآخر و العقيدة الأُخرى التي جاء بها رسول الله.. ذلك الصوت الذي غُيِّبَ منذ يوم السقيفة المظلِم، فبقبول ذلك الصوت سيكون تحرير الأرض و قبلها تحرير الإنسانية، فإنَّ لهذا الصوت مبدأ و أساس لا يتغيير و لا يتبع أهواء الحكّام و أصحاب السياسة، وإن كانت أساليب المواجهة قد تختلف و درجات الضعف و القوة لكنَّ يبقى الجوهر و الواقع ثابتًا، و لن تجد للمواقف تبديلًا، و لن تجد لها تحويلا.

إنَّ الخطاب الديني الإمامي في نفس الوقت الذي أثبت أصالته و تمسكه بالقيًّم والمبادئ من عدالة وحق و عدم تنازله عنها، فإنّه قد واكب التطورات و متطلبات العصر في مختلف الأصعدة بإصدار الموقف المناسب.

و نموذج من مواقفه في سبيل القضية الفلسطينية و تحديدًا في الثمانينات حينما كان الكفاح المسلّح لم يكن ليؤدي إلى النتيجة المطلوبة و أخذ يتراجع نتيجة ضعف الطرف العربي و قوة الطرف (الإسرائيلي)، فإنَّ هذا الخطاب  دعا إلى مواصلة النضال و المقاومة بأُسلوب آخر؛ ما لو التزم بها أصحاب القضية لما كان يصل الوضع بهم اليوم إلى ما وصل إليه.

ففي هذا الصدد يقول الإمام السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي: “لقد وجهت رسالة إلى عرفات قبل ١٥ عاماً، و كان الغرض من رسالتي أن ألفت نظره إلى مسألة مهمة، فقلت له: إنكم سوف لا تنتصرون في الوقت الحاضر على إسرائيل.. لاستخدامكم العنف.. فالعنف الذي عندكم  لا فائدة من ورائه، لأنكم كمن یملك سيفًا، و عدوّه مجهز بأحدث العدد الحربية، وإنكم لو أردتم أن تأخذوا فلسطين بالسيف و العمليات العسكریة و اغتيال الأعداء فهناك مقومات أخرى یلزم توفرها، وإلاّ فلا تحصل النتيجة.. ، أما أن العنف الذي تتخذونه وسيلة لا یوصلكم إلى شيء، لأنَّ العدو هو الآخر سوف یواجهكم بالعنف أیضًا، فإذا كان سلاحه أقوى ینتصر عليكم، ثم قلت له في جانب من الرسالة: علينا أن نتخذ نفس الأسلوب الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في فتح مكة، فالنبي استطاع أن یدخلها بسلم و دون حرب و دون أن یخسر ضحایا، و الأفضل أن یكون الأسلوب في أخذ الحقوق بالطرق المنطقية و أسلوب الضغط السياسي وما أشبه مما تأثيره أكثر، بعيداً عن العنف”.(١)

و لقد وصلت بعض الأطراف والنخب العربية إلى هذه القناعة أنهم بالفعل غير قادرين على مواجهة (إسرائيل)  بذلك الأسلوب، لكنهم قد فقدوا البوصلة في وضع البديل، فبدل أن يسلكوا طريق النضال السياسي و المنطقي ذهبوا بها عريضة!، و هو ما حصل في التطبيع الأخير.

إنَّ ظاهرة “التطبيع” و التقارب الخليجي (الإسرائيلي) تعتبر فرصة لردود أفعال عقلانية مساوية له في المقدار و معاكسة له في الاتجاه؛ و ذلك بظهور حركات تمارس النضال السياسي الواقعي و المنطقي البعيد عن أي عنف أو انفعال، و الذي سيكون بديلًا مناسبًا عن الاستسلام و التطبيع أو اللعب سياسيًا خلف الكواليس.

يقول مبعوث الإمام الشيرازي الذي سلّم الرسالة المذكورة آنفًا إلى عرفات في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٨٢ في منطقة الكولا ببيروت: “إنَّ ياسر عرفات أخذ يضحك ضحكًا عاليًا بعد قراءته للرسالة دون أن يُبيّن  سبب قهقهته، فأثار ذلك استغرابي الشديد، و حينما عدت إلى سماحة السيد و أبلغته بهذا الموقف لم يستغرب من ذلك، و قال: لأنهم عملاء، و لا توجد تجارة أربح لهم من التجارة بالقضية الفلسطينية”.

و من خلال مرور الأيام ثبت أن رسالته كانت لإقامة الحجة وكشف الضمائر للعالم و كأنه قد رأى بنور بصيرته ما سيحدث من استسلام تحت عنوان السلام.

من هنا؛ فلا فرق بين من استغل قضية عادلة لتحرير الأرض و استعادة الحق ليحوّله إلى مشروع تجاري، و بين من وظَّف الدين و النصوص الدينية خدمة للسياسة حيث إن كلا المسلكين أديا إلى نفس النتيجة؛ و هو أن يتحوّل الصراع بين حقٍ و باطل إلى لقاء باطل و باطل.

و في هذا الصدد قد تحدَّث المفكِّر الديني آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي بالتفصيل عن بعض الحركات التي تتبنى الخطاب الديني رغم أنها تأسست لضرب السلطات الحاكمة و استبدالها بسلطات مثالية.. إلا أنها تحوّلت إلى “شبكات استعمارية طيعة، تنفذ رغبات الأجانب بتجرّد و توفر و اندفاع، تؤدي لهم الرتل الخامس بلا جزاء و لا شكور”. (٢)

و عليه فلابد من أن يتعرّف العالم بـ الخطاب الإمامي، و لا ننسى أنَّ الفلسطينيين ـ و حالهم كحال أي إنسان حر يبحث عن حياة كريمة- سوف يلبّون نداء العقل و المنطق إن وعوا و سمعوا الصوت الآخر، و في هذا الصدد ينقل الإمام الشيرازي عن قصة جرت في الكويت إبّان إقامته قبل أكثر من أربعة عقود أنه استطاع أن يقنع الجالية الفلسطينية هناك عن الكف عن إقامة مظاهر الفرح يوم عاشوراء بعد أن أخبرهم أنهم بإقامتهم للحفل سيخسرون تعاطف الآخرين و يثيرون الاشمئزاز في نفوسهم (٣)، كما حصل نفس الموقف أيضًا في دمشق و منطقة السيدة زينب عليها السلام حيث أُقنعوا بواسطة ممثلي المرجعية الكربلائية بالكفّ عن مظاهر الفرح في أشدّ الأيام مأساوية على مرّ التأريخ. و في ذلك  رمزية  لتتجه قضيتهم نحو البوصلة الصحيحة.

و لا يخفى لمن يتعمّق في التأريخ أن القدس الشريف كانت في بعض الفترات ذات أغلبية شيعية، و هذا ما صرّح به الشاعر و الرحالة ناصر خسرو القبادياني البلخي في رحلته إلى القدس حيث شاهد أن معظم سكان مدينة القدس كانوا من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام و كان لهم نشاط اجتماعي و علمي دؤوب. (٣)

و من هنا فإنَّ المطلوب أن يطّلع العالم على هذا الفكر الجديد، “فإنّهم لو اطلعوا على محاسن كلامنا لاتبعونا” كما ورد عن ثامن الحجج عليه و عليهم السلام. (٤)

الهوامش؛

(١) الإمام الشيرازي؛ بين المسلمين و اليهود، ص٦.

(٢) الشهيد السيد حسن الشيرازي؛ كلمة الإسلام، ص١٠٠.

(٣) الإمام الشيرازي؛ مقطع صوتي تحت عنوان: “الفلسطينيون و إلغاء الإحتفال في عاشوراء”.

(٣) الشيخ محمد صادق الكرباسي؛ الحسين عليه السلام و التشريع الإسلامي، ج٣، ص٣٠٠، من موسوعة دائرة المعارف الحسينية.

(٤) الشيخ محمد باقر المجلسي؛ بحار الأنوار، ج٢، ص٣٠.