احترام الإنسان في الدولة المدنية
قراءة في فكر الإمام المجدد الشيرازي
رسول الحجامي/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
إن الأصل في الإنسان الاحترام والتقدير، بغض النظر عن مكانته ومقامه، وبغض النظر عن دينه ومذهبه، وبغض النظر عن عرقه ولونه ولغته… (الامام الشيرازي)
احترام الإنسان والدولة المدنية:
في عالم تتكاثر فيه التمايزات بين البشر والجماعات وتتعقد فيه العلاقات بين الشعوب وتضطرب فيه حركة الأمم في فهمها للبقاء أو الحرية، يجد الإنسان نفسه مدفوعا الى الحلم باللاعنصرية..
اللاعنصرية هو أن تعامل الإنسان كانسان، معتبرا هذه الهوية الإنسانية أساس للتفاعل والتعامل معه..
الحلم يبدأ من الإنسان من ذاته، ترى كم يستطيع أن يوفر من هذه اللاعنصرية في نفسه.. في تعاملاته مع الآخرين..
لكن الحلم يتجاوز الذات الى الآخر..
يحلم الإنسان بحياة تحترمه لذاته لا لمكتسباته وآرائه، المكتسبات زائلة والآراء متغيرة، وفي هذه الحياة لطالما تتغير الأمور بشكل سريع، والإنسان في جوهره يبحث عما يحترم هويته الإنسانية لا هوياته الفرعية لان هذه الهويات حتى ولو افترضنا إنها ستبقى ثابتة إلا إن المحيط الذي حولها ليس ثابتا.
إن أحلام الشعوب هي أحلام إنسانية تنتمي الى الجوهر الإنساني وتعبر عن حاجات الفرد الأساسية في ذلك المحيط..
احترمني كانسان… هذا ما يريده الإنسان في الدولة المدنية..
وبالمقابل لا يمكن أن نؤمن بوجود دولة مدنية لا تحترم الإنسان، لا تحترم حقوقه، لا تحترم واجباته، لا تحترمه من حيث قيمته كانسان، لا تحترم كيانه الشخصي والاجتماعي، بغير هذا الاحترام نفقد حجر الأساس الذي تقوم عليه الدولة باعتبار إن الإنسان هو وسيلتها وغايتها، وسبب وجودها وكل هدف خارج عنه يعد طارئا أو غريبا عن مفهومها وفلسفتها.
من هنا نفهم الاهتمام الكبير الذي حظي به مفهوم احترام الإنسان في فكر الإمام الشيرازي.
يقول المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه احترام الإنسان في الإسلام: فإن من أهم الأمور التي أكد عليها الإسلام تأكيداً بالغاً، هو احترام الإنسان بما هو إنسان، مع قطع النظر عن لونه ولغته وقوميته ودينه ورأيه، فالإسلام يؤكد على احترام كل الناس حتى إذا كانوا كفاراً غير مسلمين؛ لأن الإنسان بما هو إنسان محترم؛ والقرآن الكريم يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[1].[2]
وهذا التكريم الإلهي للإنسان من الضروري أن يكون مصانا بغض النظر عن الفوارق الطبيعية والمكتسبة، لذا فان الإمام الشيرازي يصل الى خلاصة أولى في تفسير هذه الآية تقول بان:
(إن الأصل في الإنسان الاحترام والتقدير، بغض النظر عن مكانته ومقامه، وبغض النظر عن دينه ومذهبه، وبغض النظر عن عرقه ولونه ولغته..
وهذا هو الأصل الأولي الذي أقره القرآن الكريم في آية التكريم: (لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[3]، تكريماً ذاتياً بالعقل، وحسن الخلقة، وتهيئة أسباب الراحة لـه، وتسخير كل شيء لأجل منافعه، إلى غير ذلك من أنواع التكريم، وقد جاء التكريم بصيغة الجمع) بَنِي آدَمَ (بلا ملاحظة الجوانب الأخرى.[4]
يرى الإمام الشيرازي إن المنهج الإسلامي يتميز عن النظريات والمذاهب الأخرى، حيث يرى في الإنسان كائناً مستحقاً للتكريم الإلهي منذ الخلق الأول، وكائناً له قيمة في الحياة بما يقوم به من دور إنساني واجتماعي بنّاء يساهم في البناء الحضاري، ويحقق السمو للنوع البشري، وإذا تخلف هذا الإنسان عن أداء دوره المنوط به فإنّه يفرط بذلك التكريم وينحدر الى مرتبة دنيا كما دل قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ *إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)[5].
لكن مايفرط به الإنسان لا يفرط به الله تعالى ولا قانونه الإلهي ولا المنهج الإسلامي في الحياة بل تبقى للإنسان كرامته الإلهية التي تفرض معاملته كانسان بغض النظر عن انتماءاته الأخرى.
فالعدالة والاحترام والحقوق متوفرة للجميع في ظل المنهج الإلهي بل وحتى موقف الإنسان من الآخر يجب ان يوطن الإنسان المسلم نفسه عليه في إطار المحبة حب لأخيك ما تحبه لنفسك، وفي ذلك يؤكد أمير المؤمنين (ع) في عهده لمالك الاشتر وهو عهد رسم فيه أمير المؤمنين ملامح الحكم الإسلامي وطبيعة الحكومة الإسلامية وعلاقتها بالشعب وفي ذلك يقول: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم. ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل[6]، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ [7] فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم [8] وابتلاك بهم)[9].
فالقانون الإسلامي ليس أعمى ولا هو خارج مدار القيم الإنسانية كما هي القوانين الوضعية، والحاكم الإسلامي ذو مهمة رعوية وتنموية وتربوية للمجتمع تنطلق من:
– الرحمة للرعية.
– المحبة لهم.
– اللطف بهم.
فعلاقة الدولة (أو إجرائها القانوني) هي ليست علاقة تصيد الأخطاء باسم القانون ولا اغتنام الانحرافات لإصدار الأحكام بل يجب مراعاة احترام الإنسان، والمجتمع بفكر الإمام علي (ع) ليس مجتمع المسلمين في مكان معين بل المجتمع الإنساني بقومياته وأديانه وأعراقه وتمايزاته الأخرى، وتصنيف الإمام علي للمجتمع يعتمد على معيارين:
الأول: المعيار الديني (إما أخ لك في الدين).
الثاني: المعيار الإنساني (وإما نظير لك في الخلق).
وحتى مع سقوط الإنسان في دائرة الخطأ او تجاوزه القانون فان ذلك لا يستدعي أن يسقط احترامه الإنساني وكرامته الإلهية فتوفر له العدالة وكل ما يحافظ على كرامته كانسان.
هذا الفكر استفاقت عليه البشرية بعد أربعة عشر قرنا من مجيء الإسلام.
لتبعث لوائح حقوق الانسان في وقت ما تزل الشعوب الإسلامي تعاني من غياب تلك الحقوق.
إنّ القيمة الجوهرية للإنسان هي هبة من الله، لكن ليس لها علاقة بفاعلية الإنسان في الأرض، لأنّها تمثل تكريماً إلهياً يعطى للإنسان الاستعداد الضروري لأداء الدور، ويبقى العمل بفاعلية لأداء هذا الدور منوطاً بالإنسان نفسه، فقد خلق الإنسان مزوداً بالعقل، ومسلحاً بالإرادة، وفوق ذلك كله سخر له الكون، ومهدت له الأرض، ووضعت أمامه السنن، كي يؤدي وظيفته، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[10]، وقال تعالى أيضاً: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا)[11]، وقال تعالى أيضاً: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف/ 10).
أما القيمة المكتسبة فهي التي تزود الإنسان بالفاعلية والعزم لأداء دوره ووظيفته، لأنّها قيمة تتعلق بالرسالة الانسانية وقيمها الحضارية التي يقوم بها في الحياة، ومن هنا قوّم الإسلام الإنسان على أساسها، وربط مصيره الدنيوي والأخروي بها، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[12].
ويؤكد الامام الشيرازي على: (إن سياسة الإسلام الإنسانية والحكيمة في احترام الناس وتقديرهم والرحمة بهم من أهم الأساليب التي ساعدت ـ وبشكل كبير ـ على انتشاره بين الناس وجلب قلوب الأعداء نحوه، حتى اليهود والنصارى والمنافقين، فجعلتهم يسلمون.. فما أحوجنا اليوم إلى هذه المبادئ الحقة التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لـهداية الناس وإعادة الأمن والسلام في كل العالم، بعد أن أصبح الإنسان أرخص شيء في هذه الدنيا، وما أحوجنا إلى إتباع سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(ع) في التعامل مع الأعداء والأصدقاء، كي نتمكن من أن نرفع راية الإسلام عالية في كل مكان… كما قال تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلـه وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[13])[14].
احترام الإنسان وحقوق الإنسان:
نعيش اليوم عصر حقوق الإنسان، فهناك حراك دولي لترسيخ هذه الحقوق في دساتير الشعوب والدول، وهناك هامش إعلامي يثقف من اجلها، وهناك طائفة من المنظمات الدولية تراقب مديات انتهاك حقوق الإنسان.
هذه الحقوق بالرغم من أهميتها إلا إنها تبقى حدود قاصرة إذا لم تحاكي حقوق الإنسان التي أشار إليها الإمام الشيرازي في العديد من المواضع بالحقوق الفطرية، وهي الحقوق المنبثقة من الهوية الإنسانية وطبيعته البشرية، وهو يقول: إن في رسالة الحقوق للإمام السجاد أكثر من هذه الحقوق.
بل إن كثير من حقوق الإنسان افرد لها الإمام الشيرازي كتابا ومؤلفات[15] لا تدعو لها فقط بل وتعلمنا الوسائل السليمة لتحقيقها وتفعيلها في حياتنا وفي حياة الآخرين.
إن حقوق الإنسان من الضروري أن تكون منسجمة ومتوافقة مع الفطرة الإلهية حتى لا نجبر الإنسان على حقوق يرفضها جوهره الإنساني، فالحقوق محكومة بغائية تحقيق الإنسان لهويته الإنسانية وإلا فإنها قد تشكل انحدارا لمستواه الإنساني والمدني والحضاري.
إن احترام الإنسان لا يقتصر على حقوق الإنسان فقط كما يروج لها الغرب، من الضروري أن يشمل احترام قيمة الإنسان كانسان، وليس كسلعة كما في النظم الاقتصادية الوضعية أو جسد كما في الاعتبارات المادية، وله اعتبار أخلاقي يتعارض مع بعض القوانين الوضعية أو الفلسفات البرغماتية ولعل سبب ذلك عدم التفات حضارة الغرب المعاصرة الى البعد الروحي للإنسان، واعتراف الوعي العالمي باكتشاف كنوز الإسلام القانونية والأخلاقية والروحية والحضارية نتيجة تراكمات التشوهات في الوعي والتعارف بسبب أعداء الإسلام من الداخل والخارج.
ويرى الإمام الشيرازي إن سقوط الايدولوجيا الغربية ومعسكراتها الاقتصادية نابع من هزيمتها أمام عدم فهم الإنسان كهوية إنسانية كرمها الله خارج الأطر المادية في التقييم، والى هذا يشير الإمام الشيرازي في كتابه القانون تحت عنوان (الرأسمالية تنهزم) بقوله:
(لقد كانت المؤشرات تشير إلى سقوط قانون الشيوعية، كما أنها تشير اليوم إلى سقوط قانون الرأسمالية حيث استظهرتُ منها ذلك، وكتبت كتاباً[16] بانسحاب قانون الشيوعية عن العالم في سنة ألف وأربعمائة هجرية، وقد طبع ذلك الكراس مراراً، ثم لم يمض إلا عقد واحد من الزمان حتى ظهر ما استظهرته.
واليوم استظهر حسب المقدمات الملموسة أيضاً أن قانون الرأسمالية أيضاً سينسحب قبل عقد من الزمان؛ لأنه قانون يخالف فطرة البشر[17].
ومن المعلوم أن الفطرة إذا غطيت مدة فإنه لا يمكن تغطيتها طول الدهر، وحينئذ لا يبقى في الساحة إلا قانون الإسلام بإذن الله تعالى. فعلى المسلمين الواعين عرض هذا القانون على العالم لإنقاذ البشرية من هذه المشاكل التي أخذت بخناقهم.)[18]
فأن معايير النمو والتقدم الحضاري في أي مجتمع إنساني معاصر تعكس مدى تكرس احترام كرامة الإنسان. فعندما تتكرس سلوكيات وتصرفات احترام آدمية الإنسان في أي بيئة اجتماعية فسيدل ذلك على رقيها الأخلاقي والحضاري.
والعكس صحيح أيضاً، فعندما تروج في المجتمع سلوكيات وتصرفات احتقار كرامة الإنسان الآخر وإزدرائه فيدل ذلك على رجعية المجتمع وتخلفه الاجتماعي والثقافي. بل لقد أصبح معيار إحترام آدمية وكرامة بني البشر مهما كان لونهم أو عرقهم أو دياناتهم أو فكرهم مقياساً حضارياً عالمياً يفرق بين المجتمع المتخلف والمجتمع المتحضر. فشتان بين مجتمع تروج فيه تصرفات شخصانية وأنانية للغاية تستند في أساسها إلى عدم الإكتراث بكرامة وآدمية الإنسان وبين مجتمع احدى علاماته البارزة التعامل الراقي والإنساني مع الإنسان! ومن هذا المنطلق، فأحد أهم معايير التقدم الحضاري والديمقراطي في أي مجتمع معاصر تدور غالبية الوقت حول الوضع الحقيقي والفعلي لكرامة بني البشر في ذلك المجتمع.
فاستمرار ضعف الاهتمام بكرامة الفرد دليل واضح على تخلف المجتمع أو رجعيته وتخلفه. ولذلك لا يمكن في أي حال من الأحوال وصف أي مجتمع إنساني بأنه ديمقراطي أو مدني أو متقدم ما دام تحصل فيه أحداث وظروف ووقائع تدل على إزدراء وإحتقار أو الإستهانة بكرامة الإنسان الفرد.
لقد دعت الأديان الى تكريم الإنسان لانه خليفة الله في الأرض، وانه اختير من قبل الله تعالى،، ليحكم بين الناس بالعدل،، ويقيم الحق والإنصاف، وانه عليه ان يأتمر بشرع الله الداعي الى ان يعيش الناس أحرارا متساويين بالحقوق والواجبات لا فرق بين غنيهم وفقيرهم وأسودهم وأبيضهم ورجالهم ونسائهم الا بالتقوى، وسنت الشرائع والقوانين الإنسانية من اجل ان يتمتع كل شخص بالحقوق كاملة دون نقصان، ولكن ظروف قاهرة متعددة حالت دون ان يعمل بشرع الله ودون ان تنفذ القوانين الداعية الى إنصاف البشر ومنحهم الحقوق التي تتناسب مع مؤهلاتهم وكفاءاتهم،، والقدرات التي يبذلونها،، والنضال الطويل والشاق الذي يقومون به
من حق كل إنسان ان يحظى بالاحترام المناسب لشخصيته وكفاءته وان يجد تلبية لحاجاته المتعددة والتي لا تكون سعادته متحققة بدونها، من حق كل إنسان ان يتمتع بالحرية التي تجعله سعيدا، حرية العمل واختياره، والتمتع بالهوايات، والصداقات والحب وان يستطيع التعبير عن رأيه بكل حرية ما لم يكن ذلك الرأي يتعارض مع حريات الآخرين، القوة مسيطرة على العالم، شعوب بأكملها تباد لان المستعمر والإمبريالية تريد ذلك، ملايين الأشخاص محرومون من نتيجة أعمالهم وتعبهم لان القوى المسيطرة على الصناعة والتجارة تأبى الا تسلب من الناس العاملين ثمن تعبهم، كيف يحظى الإنسان بالاحترام اللازم ان كان عاجزا عن تلبية حاجاته الأساسية، المادية والمعنوية، وكيف يثق بنفسه ويؤمن بقدراته ان كان أولو الأمر يحرصون ان يئدوا قدراته وهي بالمهد، ويحيطوه بمشاعر الإحباط والكآبة من كل جانب، ويحيلوا حياته الى جحيم لا يطاق من الأحلام المحبطة والآمال التي لم يتمكن من تحقيقها والإنسان طاقة ان لم يجد السبل الكفيلة بتحقيق أحلامه عاش مقهورا مثبطا بعيدا عن السعادة والسرور.
إن الإمام السيد محمد الشيرازي يرى إن من أهم السيول التي تجرف حقوق الإنسان في عالمنا المعاصر هي:
1- الاستعمار بكل أشكاله: الاستعمار العسكري، الثقافي، الاقتصادي، السياسي، فالاستعمار بالمصطلح السياسي الحديث يصادر إرادة الجماعات والأفراد سواء كان عن طريق القوة الخشنة أو الناعمة.
2- الرأسمالية: وهو نظام يسمح بتكدس الأموال عند عدد قليل من الأفراد مقابل جموع الأمة، وبالتالي يتحكم في إرادتها ووجودها، ويسخرها لإرادة أقلية صغيرة، ويرى الإمام إن هذا النظام لم يوفر حياة كريمة للإنسان في معقله وهو أمريكا ” وقد نشروا هم بأنفسهم إحصائيات تقول: بأن في أميركا ــ زعيمة الرأسمالية ــ أكثر من ثلاثين مليون فقير. هذا مع قطع النظر عن أنه سبب تخبط العالم في الديون المتضاعفة حتى أميركا نفسها، وقد قدروا هم بأنفسهم أن في عقد واحد من الزمان ــ وهو من الثمانين إلى التسعين ــ صارت ديون أميركا ثلاثة أضعاف ديونها في مدة مأتي سنة من عهد واشنطن”.[19]
3- مظاهر العنف: وتشمل الحروب والإرهاب واستعباد الشعوب ومصادرة الحريات والتمييز العنصري على أساس اللون والعرق والقومية وغيرها مما يثلم حقوق الإنسان ويصادرها [20].
4- الانحرافات الاجتماعية: ومنها اهانة المرأة، تراجع الخطاب التربوي وضعف الدور الذي تمارسه المؤسسات التربوية، انحدار الالتزام الأخلاقي والديني [21].
احترام الإنسان في المنهج الإسلامي:
إن احترام الإنسان لأخيه الإنسان يعني احترامه لذاته، والإمام علي يؤكد حقيقة مهمة بقوله: ((الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق)).
والقرآن الكريم والنصوص الدينية تُقرر أن للإنسان كرامة واحتراماً بما هو إنسان بغض النظر عن أي اعتبارٍ آخر، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾، ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾، ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾. وقال رسول الله: ((أذل الناس من أهان الناس)).
ويؤكد الإمام الشيرازي في كتابه احترام الإنسان على ان هناك خزائن من النصوص المقدسة التي يجب تفعيلها في تنمية الإنسان وتربية المجتمع في مجال احترام الإنسان والمحافظة على حقوقه المشروعة فيقول: لقد حفظ لنا التأريخ أحداث ووقائع ومواقف مشرفة تحكي الأسلوب الإسلامي الحقيقي في مراعاة حقوق الإنسان كائنا من كان، مسلماً كان أو منافقاً، مشركاً كان ذلك الإنسان أو كافراً، وقد تجسد ذلك بأعظم صورة من خلال الحياة الشريفة وأسلوب المعاشرة التي كان يتبعها الرسول الأعظم (صل الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين(ع) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) مع كل الناس.[22]
فالإسلام ألزم كل شخص أن يحترم الآخرين، سواء في المجتمع الصغير أو الكبير، بدءا من العائلة والحياة الزوجية، حيث الزوج والزوجة، والوالدين والأولاد، وانتهاء بسائر الناس.[23]
ويؤكد الإمام الشيرازي على: أن أحد الأسباب التي أوجدت الاختلافات والتفرقات في مجتمعنا الإسلامي هو افتقاد الاحترام المتبادل فيما بين الناس؛ وهذا مما نهى عنه الإسلام أشد النهي، فإنه إذا لم يحترم زيد عمرواً في مكان ما فإن عمرواً سوف لا يحترم زيداً بعد ذلك، وهذا ممّا يدعو إلى افتقاد المحبة والألفة بين الناس.[24]
ويرى الإمام الشيرازي إن احترام الإنسان متدرج يبدأ من احترام الإنسان لذاته وفي دائرة أوسع احترام الإنسان في داخل الأسرة باعتبارها الدائرة الأقرب للإنسان فإن حسن التعامل والاحترام في هذه الدائرة مهم جداً بالنسبة للإنسان وللأسرة التي ينتمي إليها.
ويبين الإمام الشيرازي شمولية المنهج الإسلامي في احترام الإنسان بصورة عامة، ويشير الى اهتمام المنهج الإسلامي باحترام الإنسان في حالتين عادة تنتجان عداء فطري بين المجتمع وذلك الإنسان، وهما حينما يتحول الإنسان الى مجرم في داخل مجتمعه، والحالة الثانية تختص بالعدو الذي يسعى لإيقاع الأذى بالمجتمع، وإذ استطاعت البشرية اليوم من ان تسجل هذه الحقوق في مواثيق فان الإمام الشيرازي يؤكد على إن الإسلام الأصيل سن المنهج التربوي لتنشئة الفرد وبناء المجتمع على هذا النهج الرسالي الإلهي.
ويؤكد الإمام الشيرازي على إن: (الإسلام العزيز بتعاليمه وأوامره أسمى درجات الاحترام للإنسان، فقد أوصى الإسلام باحترام الجميع حتى لو كان فاسقاً أقيم عليه حد من حدود الله، وفي ذلك الشأن قصص عديدة ومشهورة، منها قصة (ماعز) واعترافه بالزنا.. وفي هذه القصة نقطتان لابد لنا من التأمل فيهما:
1 ـ النبي الأكرم (صل الله عليه واله وسلم) صنع مجتمعاً يفيض بالفضائل والمكرمات والأخلاق الحسنة، إلى درجة أن المذنب يأتي ويعترف بنفسه بما فعلـه من الجرم، مع أنه يعلم بأنه ليس وراء اعترافه إلاّ الموت، بل الموت رجماً.
2 ـ إن علم الحاكم والقاضي لا يكفي في باب الزنا وليس بحجة، فالنبي (صل الله عليه واله وسلم) وإن كان يعلم بفعل هذا الشاب (ماعز)، لكنه (صل الله عليه واله وسلم) في المرحلة الأولى لم يتخذ أي قرار برجمه، بل اتخذ ذلك بعد الاعتراف الرابع وبعد تحقق الشروط المقررة شرعا)[25].
فالإمام يبين لنا إن فلسفة القانون في المجتمع الإسلامي لا تقوم على الانتقام أو العقاب بل غايتها الأولى هو تطهير الإنسان لإرجاعه الى انتمائه الاجتماعي، وبالمقابل فان المجرم/المحدود (من تجاوز حدود الشرع الإلهي) يبحث عن التطهير لاحترام الذات، وحتى عندما يقتضي القانون إجراء الحد الجزائي فان المحدود تحفظ كرامته كانسان وتجرى كافة حقوقه.
أما مع العدو الذي أذن الله عز وجل بقتاله فيبين لنا الامام الشيرازي النهج الإسلامي في التعامل معه، فيقول: (إن الإنسان لـه مقام محترم وقيمة عالية، حتى لو كان كافراً قد خرج لحرب رسول الله(صل الله عليه واله وسلم)، فلا يجوز تعذيب الخصم مهما كانت الغاية والغرض من تعذيبه، وإنما جعل الإسلام طرقاً أخرى نزيهة لكسب المعلومات تنسجم مع الرحمة الإنسانية التي جاء بها الإسلام في التعامل مع الخصوم، وهي لا تخفى على من راجع سيرة الرسول الأعظم(صل الله عليه واله وسلم) والإمام أمير المؤمنين(ع) في ذلك وخاصة في باب القضاء)[26].
وبعد أن يقدم لنا الإمام الشيرازي أنموذج المنهج الإسلامي في احترام الإنسان من خلال الرسول (صل الله عليه واله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) يقدم لنا الأنموذج الإسلامي من خلال الإنسان القرآني فيروي[27] أن مالك الأشتر (رضوان الله عليه)[28] كان يجتاز يوماً في سوق الكوفة، فشتمه رجل وأظهر عليه السفاهة والإهانة.
فلم يقل في جوابه شيئا ولم يتعرض عليه وجاوزه.
فقال رجل للشاتم: أما عرفته؟ هذا مالك، أمير عسكر أمير المؤمنين(ع) وذكر لـه نبذاً من أوصافه.
فلما عرف الرجل أنه مالك دخله الرعب الشديد وظن أنه ينتقم منه، فذهب إلى أثره ليعتذر منه ليسلم من عقوبته.. فوجده في المسجد يصلي، فجلس في زاوية حتى يفرغ من صلاته.
فلما فرغ من صلاته نظر فرآه أنه يطلب من الله المغفرة للرجل المستهزئ. فجاءه وأعتذر منه.
فقال مالك: لا بأس عليك، فوالله ما دخلت المسجد إلا لأستغفر لك!.[29]
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
…………………………
[1] سورة الإسراء: 70.
[2] الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام. بيروت – مؤسسة المجتبى، ط1، 2005م، ص8.
[3] سورة الإسراء: 70.
[4] الإمام السيد محمد الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام، ص20.
[5] سورة التين: 4-6.
[6] يفرط: يسبق. والزلل: الخطأ.
[7] أي تأتي السيئات على أيديهم.
[8] استكفاك: طلب منك كفاية أمرهم والقيام بتدبير مصالحهم.
[9] نهج البلاغة – خطب الإمام علي عليه السلام – شرح الشيخ محمد عبده، بيروت – دار المعرفة، ج 3/ص 84.
[10] سورة التين: 4.
[11] سورة الإسراء: 70.
[12] سورة العصر: 1-3.
[13] سورة التوبة: 33.
[14] الإمام السيد محمد الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام، ص77.
[15] ومن تلك المؤلفات: المرأة، الشباب، الإصلاح، الشعور بالمسؤولية، تعدد الأحزاب، الشورى، السلم والسلام، اللاعنف، احترام الإنسان، وغيرها.
[16] وهو كتاب (ماركس ينهزم) كتبه الإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) في مدينة قم المقدسة. ويقع في 47 صفحة قياس 20×14، وقد تناول فيه سماحته المواضيع التالية: ماركس إلى الزوال، الإلهيون والماديون، الديالكتيك، التناقض، أمثلتهم للتناقض، المثلث الماركسي، المادة ليست مسرحاً لتز وآنتى تز وسنتز، كيف يتكامل العلم، ماركس وأصول ديالكتيكه، ماركس وأدوار الاجتماع، إيرادات على الأصول الأربعة والأدوار الخمسة. وقد تنبأ المؤلف (قدس الله سره) في هذا الكتاب إلى انهيار الشيوعية. طبع الكتاب في دار القرآن الحكيم، قم المقدسة ــ إيران، مطبعة سيد الشهداء ع، عام 1400هـ. كما ترجم إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: (ماركسيسم در آستانه سقوط)، ترجمه الشيخ ذكر الله الأحمدى، وطبع مكرراً في إيران.
[17] راجع كتاب (الغرب يتغير) للإمام الراحل الشيرازي (قدس الله سره).
[18] الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي. كتاب القانون.الفقه: موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي. العراق- كربلاء المقدسة، دار العلقمي للطباعة والنشر.الطبعة الثالثة 1427هـ 2006م ص 29.
[19] الإمام الشيرازي. كتاب القانون، ص 30.
[20] الإمام الشيرازي. كتاب القانون، ص 31-32.
[21] الإمام الشيرازي. كتاب القانون، ص 32-33.
[22] الإمام السيد محمد الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام، ص22.
[23] الإمام الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام، ص48.
[24] الإمام الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام، ص48.
[25] الإمام الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام، ص55.
[26] الإمام الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام، ص40.
[27] بحار الأنوار: ج42 ص157 ب124 ح25.
[28] قال الشيخ الأميني في الغدير: مالك بن الحارث الأشتر، أدرك النبي الأعظم(صل الله عليه واله وسلم) وقد أثنى عليه كل من ذكره، ولم أجد أحدا يغمز فيه، وثقه العجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، ولا يحمل عدم رواية أي إمام عنه على تضعيفه. وكفاه فضلا ومنعة كلمات مولانا أمير المؤمنين (ع) في الثناء عليه في حياته وبعد المنون، وإليك بعض ما جاء في ذلك البطل العظيم: من كتاب لمولانا أمير المؤمنين كتبه إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر: أما بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار. وهو: مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا لـه وأطيعوا أمره فيما طابق الحق، فإنه سيف من سيوف الله، لا كليل الظبة، ولا نابي الضريبة، فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم، ولا يؤخر ولا يقدم إلا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم، وشد شكيمته على عدوكم.
ولما بلغ أمير المؤمنين(ع) موت الأشتر قال: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم إني أحتسبه عندك، فإن موته من مصائب الدهر. ثم قال: رحم الله مالكا فقد كان وفى بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله(صل الله عليه واله وسلم) فإنها من أعظم المصائب. وقال المغيرة الضبي: لم يزل أمر علي (ع) شديدا حتى مات الأشتر. وقال ابن أبي الحديد في شرحه: كان فارسا شجاعا رئيسا من أكابر الشيعة وعظمائها، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين(ع) ونصره.
وكان سبب شهادته أنه دس معاوية بن أبي سفيان للأشتر مولى عمر فسقاه شربة سويق فيها سم فمات، فلما بلغ معاوية موته قام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان قطعت إحداهما يوم صفين وهو عمار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر. انظر: الغدير: ج9 ص38 ترجمة مالك الأشتر.
[29] الإمام الشيرازي. احترام الإنسان في الإسلام، ص70-71.