الذكاء الاستراتيجي للقائد الامام علي (عليه السلام) أنموذجا

علي حسين/مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام    

 

تعوز المجتمع الاسلامي الموزّع في اصقاع الارض، قيادات ذكية، تنقله من واقع التخلف الى حقيقة العلم والتطور، مع توافر متطلبات التقدم المادية والمعنوية، ولكن بسبب ضعف او غياب العقلية السياسية ذات الذكاء الستراتيجي، بقيت الدول الاسلامية تراوح في مربع الجهل والتعصب والتخلف، فيما يتقدم العالم الى أمام.

وتشير الثوابت التاريخية الى ادلة قاطعة، تؤكد الدور الحاسم للذكاء في نجاح القادة أو فشلهم بخصوص ادارة الدولة، نزولا الى ادارة المؤسسات والمديريات الأقل حجما ومسؤولية، بمعنى ان القائد سواءا كان في مرتبة عليا او دنيا، فهو محكوم بعامل الذكاء وحتمية توافره في شخصيته، تفكيرا وسلوكا.

ولا نعني بالذكاء هنا، ذلك الذكاء المتعارف عليه، إنما هناك ذكاء استراتيجي له آفاقه الواسعة جدا، وقدراته الكبيرة، حيث يمنح حامله القدرة على رؤية الوقائع بوضوح أشدّ، ويستشرف المستقبل بوضوح أدقّ، ويبني احكامه وافكاره ويتخذ قراراته العملية المهمة، استنادا الى ملكة الذكاء الستراتيجي التي يتحلى بها، ولا ينحصر الامر بالقائد السياسي فقط، بل جميع الذين يتسنمون مناصب قيادية في المؤسسات والمصانع والدوائر وسواها، صعودا الى قيادة الدولة ككل، حيث يبرز بوضوح ذكاء القائد السياسي في القيادة الناجحة.

النموذج القيادي حاضرا

وهذا تحديدا هو سر نجاح الشخصيات القيادية التاريخية المعروفة لدينا، كونها نجحت بالوصول الى أعلى المراتب بشعوبها وأممها، لما تتمتع به من ذكاء عال متفرد، يساعدها على رؤية الاهداف المطلوبة، وكيفية تحقيقها بوضوح وبإرادة خلاقة.

ولدينا في هذا الصدد شخصية قيادية اسلامية عظيمة، تتمثل بالتأريخ القيادي السياسي الناصع للامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، حيث تم تطبيق ثوابت الدولة المدنية في عهده، ولعل أروع الادلة في هذا المجال، مساعدة القائد السياسي الأعلى على ترسيخ القيم المدنية، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر، دعم الصوت المعارض، وحماية حق الرأي وحريته، ناهيك عن المساواة العظيمة كنهج تم تطبيقه على نحو جوهري، ليتم القضاء على الفقر كليا في الدولة الاسلامية، وهو هدف عجزت عن تحقيقه دول معاصرة.

ولسماحة المرجع الديني آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) رؤيته الواضحة للقائد السياسي، ودرجة ذكائه وحنكته، ومقدرته على اقامة دولة المؤسسات المنضبطة ببنود الدستور، تلك الدولة التي كان مثالها الافضل في عهد سيدنا وامامنا ونموذجنا السياسي الأمثل، الامام علي (عليه السلام)، لذا سيستند مقالنا هذا الى رؤية سماحة المرجع الشيرازي لأهمية ذكاء القائد السياسي وحنكته، في ادارة الدولة المدنية، ودوره في البناء المجتمعي والسياسي الأرقى والأفضل.

مع أننا جميعا نقرّ ونعترف بصعوبة الخوض في السياسة ودهاليزها، ذلك ان العمل في هذا المعترك ليس متاحا للجميع، واذا صار الامر على هذه الشاكلة، كما هو الحال في كثير من الدول الاسلامية راهنا، فإن الفشل الذريع هو النتيجة المؤكدة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي، في كتابه القيّم الموسوم بـ «السياسة من واقع الإسلام»:

إن (السياسة بحث واسع مترامي الأطراف، وبحر عميق عريض لا يبلغ غوره وسواحله إلاّ القليل القليل.. فهي كيفية إدارة شؤون الناس في السلم والحرب، والأخذ والعطاء، والشدّة والرخاء، والاجتماع والافتراق، وغير ذلك. وإذا علمنا أن الناس كما يختلفون في أشكالهم، وألوانهم، ولغاتهم.. كذلك: يختلفون في أذواقهم، وعقولهم، وعواطفهم. ويختلفون في إدراكهم، وفهمهم، وتحليلهم. ويختلفون في خلفياتهم، ونظراتهم، ومعطياتهم. فبين شباب لا ثقة لهم بفكر الشيوخ. وبين شيوخ لا ثقة لهم بتجلّد الشباب. ومن هنا تلعب الأهواء، والميول، والاتجاهات.. في هذا المجال أدوارها الفعّالة بين حسد، وغبطة، وتنازع على الصعود، وغير ذلك الكثير.. والكثير.. والكثير..).

ومع ذلك يبقى نموذج القائد السياسي الناجح حاضرا أمام الجميع، متمثلا بقائد الدولة الاسلامية، الامام علي (عليه السلام)، الامر الذي يدلل بوضوح تام على الذكاء ودوره في بناء الدولة وتسيير الامور السياسية والاقتصادية والاجتماعية لها.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول قيادة الامام علي عليه السلام:

(كانت سياسة أمير المؤمنين صلوات الله عليه العملية خير درس للقادة وللمسلمين في تطبيق حياتهم العملية السياسية عليها، كما كان ذلك بالنسبة لرسول الله صلی الله عليه وآله).

الزهد بالسلطة وامتيازاتها

يعد الزهد بالسلطة، وعدم الاهتمام بما تمنحه من امتيازات للقائد، من أهم شروط النجاح، لذلك بالاضافة الى كون الزهد ملكة أو صفة يتصف بها القائد المتميز، لكنها في الوقت نفسه، نابعة من الذكاء الستراتيجي الذي يتمتع به ذلك القائد، حيث ينبذ جميع العوامل التي يمكن ان تؤثر على عمله وادارته للدولة وقراراته ذات التأثير المصيري على الامة او الشعب.

ولعل المشكلة الكأداء التي واجهت الحكومات الاسلامية على مدى تأريخها، تتمثل بالقدرة على الزهد بالسلطة، أو العكس، أي الوقوع بين براثن السلطة واغراءاتها، وهذا ما حدث للعديد من حكام المسلمين، حين استأثروا بالسلطة وغاب الحق عن بصائرهم.

فاستشرى الظلم، وانتشر الفساد والقهر والجهل، في ظل حكومات فاسدة وحكام قهريين فاشلين، الامر الذي شكل قاعدة او جذور لحكومات اسلامية مستبدة راهنة، والسبب دائما هو تشبث القادة بالسلطة وامتيازاتها، وغياب الذكاء لدى الحكام الذي ينعكس بدوره على الشعوب وطبيعة حياتها وحقوقها.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الشأن: (ما كان أهون عند الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه من الدنيا وما فيها. فالمال، والحكم، والسلطة، والفرش، واللباس، والقصور، والأكل، والشرب.. كلها عند علي صلوات الله عليه لا شيء، إلاّ بمقدار الحاجة الضرورية). ويضيف سماحته قائلا: (أربع سنوات أو أكثر قضاها الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه بين الكوفة والبصرة، وهو الرئيس الأعلى للبلاد الإسلامية الواسعة الأطراف. خلال هذه المدة الطويلة لم يشتر من مال المسلمين ثياباً لنفسه، ولم يأخذ من أموال البصرة والكوفة شيئاً لذلك. بل ظل على ثياب المدينة كل هذه المدّة الطويلة، إلاّ إذا اشترى من عطائه الخاصّ كأضعف مستضعف من مسلم آخر في طول البلاد الإسلامية وعرضها).

هكذا هو النموذج الامثل للقائد الاعلى، ليس في ما يخص الدولة وادارتها، انما يشمل هذا الامر جميع المؤسسات التي يقف عليها مدير أعلى، فالذكاء في الادارة واتخاذ القرار المناسب، وطرق تنفيذه، كلها عوامل تسهم في نجاح او فشل القائد.

معالجات لابد منها

القائد والمدير ومن يتصدر الناس، يحتاج الى النموذج لكي يصحح اخطاءه وفقا لتجربة النموذج، ولعل المشكلة الكبرى التي تعاني منها الحكومات الاسلامية وقادتها، هي اهمالهم للنموذج الناجح، تحت ضغط اغراءات السلطة وامتيازاتها من جانب، وضعف النفس وعدم القدرة على التحكم بها من جهة ثانية، بمعنى ان النموذج حاضر تاريخيا، ولكن المشكلة في القادة أنفسهم، بسبب ضغط النفوس.

بخصوص النموذج يقول سماحة المرجع الشيرازي:

(في الوقت الذي عمت الخيرات بلاد المسلمين وبفضل الإسلام، فكان المسلمون وغير المسلمين يرفلون في نعيم من الطيبات. وكانت الكوفة ـ عاصمة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه ـ لا تجد بها إلاّ المنعَّم من الناس. في مثل هذا الظرف تجد سيد الكوفة، وسيد البلاد الإسلامية، وزعيم الإسلام: أمير المؤمنين صلوات الله عليه لا يأكل حتى ما يأكله أدنى الناس).

إذن المطلوب تطبيق النموذج على الواقع، ويتم ذلك من خلال:

– الترفع عن الصغائر، واستخدام الذكاء الستراتيجي بالصورة الصحيحة والمناسبة.

– وضع البنود التشريعية الفاعلة لردع مصادر الانحراف وانواعه.

– مساهمة عقلية القائد في بناء الدولة المدنية انطلاقا من ذكائه ومرجعياته المعرفية والثقافية عموما.

– انشاء ركائز قوية لدولة المؤسسات والفصل بين السلطات.

– التركيز على منظومة التربية والتعليم لجميع المراحل.

– حث المنظمات الحكومية والاهلية للقيام بدورها التثقيفي التوعوي المتواصل.

– الابتعاد عن العسكرة واظهار معالم الدولة المدنية بصورة واضحة.

– العمل بمبدأ تفويض السلطة للآخرين وعدم الاستئثار بالسلطة والامتيازات، من خلال تفعيل مبدأ المشاركة لتعزيز العمل الجماعي وثقافة المؤسسات.

يحدث هذا كله، عندما يتمتع القائد او المدير بمؤهلات الذكاء الستراتيجي، ومن ثم العمل على توظيفها بالصورة الصحيحة في واقع مؤسسات الدولة وتوابعها، بمعنى اوضح، أن يعمل رأس الدولة بإخلاص على البناء المدني لجميع المؤسسات التي تدعم قيام دولة مدنية معاصرة.

* مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

http://annabaa.org