حسن كاظم
رغم أن الثورة الفرنسية الكبرى عام ١٧٨٩ م تعتبر نموذجًا ناجحًا في عالم التغيير نحو الأفضل، حيث تحوّل إلى رمز لمن يريد السير إلى الحرية و الديمقراطية، لا في فرنسا و أوروبا فحسب، بل في جميع مناطق العالم، فـ كانت الثورة الملهمة للنضال ضد الظلم و الديكتاتورية لدى جميع الثوار و حركات التحرر، إلا أن ما حصل خلال أعوام الثورة و بعد أن استولى الثوار على مقاليد الحكم، يبقى وصمة سوداء في جبين الثورة؛ أعني عمليات القتل و الثأر و قصص التعقب و الملاحقة و المقاصل .. مما حوَّلها إلى ثورة دموية راح ضحيتها عشرات الألوف و ذلك لسنوات متمادية.
و لا تختلف الثورات الأخرى التي استلهمت حماسها من الثورة الفرنسية عن قصص الانتقام في كلٍ من روسيا و الصين و أميركا اللاتينية و بعض بلاد العرب و المسلمين.
من هنا فإن للإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي أفكار وتعاليم متميزة عن غيره من النهضويين يوجهها لزعماء الثورات وحركات التحرر قام بإبدائها إبان الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ م.
في هذا الصدد يقول أخوه المرجع السيد صادق الحسيني الشيرازي: “في إحدى الثورات التي حدثت في إحدى البلاد الإسلامية, بدأ الثوار بتنفيذ عمليات الإعدام لمن كانوا على مقاليد الأمور في النظام المنصرم. هنا أتذكَّر أن المرحوم الأخ رضوان الله تعالى عليه أرسل مبعوثًا إلى زعيم تلك الثورة قائلًا له إن ثورتكم هذه قامت باسم الإسلام و لذلك عليكم أن تستنّوا بـ سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم و لا تعدموا حتى فردًا واحدًا, فالدم لا يُغسل بالدم, و قوموا بما قام به رسول الإسلام في مكة حينما قال اذهبوا فأنتم الطلقاء. فـ كل من فعل ما فعل, و قتل من قتل, و صادر ما صادر, و ضرب من ضرب.. كلها انتهت و لنفتح صفحة نقية و جديدة بيضاء .. ذلك لأن الكثير من العاملين في النظام السابق من وزراء و موظفين, لم يكونوا كلهم مؤمنون بذاك النظام و إنما كان مصدر رزقهم يدر من خلال أعمالهم في مؤسسات ذلك النظام و هم مستعدون من أجل الاستمرار في العيش و الحياة الكريمة أن يتعاونوا معكم أيضًا.. فافعلوا ما فعله النبي الأعظم في مكة و المدينة من إصدار عفو عام للجميع.. لكن رسالة الإمام الشيرازي لم تؤثر على زعيم الثورة و منذ بداية الثورة و حتى يومنا هذا لا تزال إراقة الدماء مستمرة و لا يعلم عدد الضحايا إلا الله.. هذا ما عدا الحروب و المعارك الضارية..” (١)
فبناءًا على القاعدة الشرعية المعروفة في الفقه الإسلامي “الإسلام يجبُّ ما قبله” يذكر السيد محمد الحسيني الشيرازي نموذجين من تعامل رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وخليفته علي بن أبي طالب عليه السلام مع المحاربين بعد النصر والظفر عليهم وينظر لقانون العفو العام قائلًا: لا شك أنّ الإسلام يجبُّ ما قبله.. و الأرجح جريان هذا القانون إلى ما سبق على قيام الدولة الإسلامية .. و التي كان منها عفو النبي (صلى الله عليه وآله) عن جملة من الكفار ومنهم أهل مكة، حيث قال (صلى الله عليه وآله): اذهبوا فأنتم الطلقاء مع وضوح أنّهم لم يسلموا، وإنّهم كانوا أساؤوا إلى المسلمين بالقتل والجرح ونهب الأموال.. و كذلك الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على من حاربه في البصرة، مع أنهم كانوا قتلوا وجرحوا وفعلوا كل منكر.. (٢)
إن الرجوع للتاريخ لاستلهام قواعد وقيم حاكمة في العفو و السلام و الرحمة و التسامح و الإستقرار و البناء و الإعمار و العلاقات الداخلية في طريق الوصول إلى الحكم وما بعده لتشكل علامة فارقة في عالم الفكر في عصر دموي أصبحت فيه العودة إلى التاريخ مصدر إلهام لنشر الإضطرابات و الصراعات و العنف و القتل و الدمار.
من هنا و بناءًا على ما سبق يُمكن القول; إنَّ قانون العفو العام في بداية الثورات والتغييرات السياسية الجذرية الكبرى فكرة متطورة جدًا في بناء علاقات داخلية متسالمة و دولة حديثة و مستقرة و متطلعة نحو المستقبل لم يصل إليها حتى الفكر الفلسفي السياسي الغربي في أوج تطوره في القرن الواحد و العشرين رغم كل التقدم الحاصل في مجال العلوم السياسية و الحقوق المدنية. و نموذج المحكمة الدولية في لاهاي في تعقب المتورطين في الأنظمة السابقة لا يزال جاريًا حتى و إن أُلغي حكم الإعدام في بعض مناطق الغرب, إلا أن ثقافة الإنتقام والثأر و غسل الدم بالدم سائدة.
الهوامش:
(١) آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي, محاضرة بمناسبة رحيل نبي الإسلام, ٢٨ صفر ١٤٣٣.
(٢) الإمام السيد محمد الشيرازي, فقه الحكم في الإسلام, المسألة ١٥